ليس من قبيل المبالغة أو «التبصير» أن يسود هاجس إلحاق محافظة إدلب بتركيا، وذلك في مسار تقاسم المناطق والنفوذ الجاري حالياً بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية والدول الإقليمية خصوصاً منها تركيا. فسورية اليوم تعيش حال تقسيم واقعي على الأرض، لم يصل بعد الى تشريع قانوني بتعيين المناطق التي تعتبرها إسرائيل من حصتها، ولا الأتراك وصلوا إلى محطة متقدمة تسمح لهم بالقول إن حصة تركيا من سورية هي محافظة إدلب. لكن الهواجس تبقى مشروعة ومشرّعة في المستقبل، بعد أن فقدت سورية استقلالها، ولم يعد المسؤولون عنها أصحاب سلطة تقرر في مصير البلاد والعباد. فسورية خاضعة اليوم، عملياً وحتى الآن، إلى استعمار روسي له اليد العليا في كل شيء، على غرار ما كانت عليه سورية في النصف الأول من القرن العشرين خاضعة للاستعمار الفرنسي الذي الحق لواء الإسكندرون بتركيا بعد صفقة بين البلدين.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وتقسيم الامبراطورية العثمانية، وحتى نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، كان لواء الإسكندرون أرضاً سورية وخاضعة للحكم فيها، وكان يشكل المحافظة الخامسة عشرة لها، وكان اللواء يومها تابعاً لولاية حلب. يومها لم يكن يسكن من التركمان في اللواء سوى ثلاثين في المئة من سكانه، فيما الآخرون من السكان العرب المتعددي الطوائف. كان لواء الإسكندرون ذا موقع استراتيجي مهم لسورية، فهو من أهم الموانيء البحرية. منذ أن استتب الحكم لمصطفى اتاتورك في تركيا في عشرينات القرن الماضي، بدأ التخطيط من جانبه لضم لواء الاسكندرون إلى تركيا، ودخل في مفاوضات مع الاستعمار الفرنسي أنتجت موافقة فرنسية على إلحاق اللواء بتركيا وذلك عام 1939.
بقي اللواء في المنطق السياسي والجغرافي أرضاً سورية، وإن يكن النظام كف عن المطالبة باسترجاعه في السنوات اللاحقة. لم تشكل المطالبة باللواء قضبة قومية بوصفه أرضاً محتلة ومغتصبة من الأتراك طيلة حكم حزب البعث وحافظ الأسد خصوصاً. حسمت تركيا الأمر عام 1996 عندما دخلت الأراضي السورية وتمركزت فيها، في سياق الضغط على الحكم السوري الذي كان يدعم التمرد الكردي بقيادة عبد الله اوجلان، وفرضت اتفاقاً مذلاًّ على القيادة السورية آنذاك، أعطاها الحق بالدخول إلى الأراضي السورية في كل مرة ترى ان حدودها مهددة. وكان من ضمن الاتفاق الحسم في تخلي النظام السوري بشكل نهائي عن اللواء، وإلغاء كل ما يتصل بسوريته، سواء في الخريطة السياسية أو الجغرافية وحتى في كتب التعليم الرسمي.
ترمي هذه الاستعادة عن لواء الإسكندرون للإضاءة على السلوك التركي تجاه سورية منذ اندلاع الانتفاضة قبل سبع سنوات وحتى اليوم. على رغم الصراخ الدائم الذي كان الشعب السوري يسمعه من أردوغان حول عدم السماح بتكرار مجازر حماه التي حصلت في ثمانينات القرن الماضي، إلا أن أردوغان لم يتدخل رغم رؤيته ان سورية كلها صارت مدينة حماه، بل إن ما حصل في حماه يشكل نقطة صغيرة مما أصاب سورية من الدمار على يد النظام وحلفائه الإيرانيين والروس خصوصاً. كان أردوغان، على غرار مصطفى كمال، ينتظر اللحظة المناسبة ليقطف ثمار انهيار سورية وتدميرها، وعينه متركزة على محافظة إدلب. ان الحجج التي يدعيها عن أن تدخله الراهن هو لكبح جماح الأكراد لا تقوم عليها أي صحة، فالأكراد وأهدافهم معلنة منذ اليوم الأول للانتفاضة، فلماذا لم يرسل دباباته إلى سورية إلا في الأشهر الأخيرة؟ يعرف أردوغان أن الصراع على سورية مندلع إلى أقصى مداه، وأن حصته لا بد من أخذها في الاعتبار. كما كان لواء الاسكندرون منفذاً بحرياً مهماً لتركيا، فإن محافظة ادلب موقع مهم في موارده الزراعية والبترولية.
سؤال يطرح نفسه عن تعثر تقسيم الدول خصوصاً التي رسمت في اتفاقيات سايكس بيكو، بما يعني أن هناك صعوبة دولية في الاعتراف بسلخ الأراضي. هذا صحيح. الطمع التركي باللواء بدأ في العشرينات من القرن الماضي، والإلحاق تم عام 1939، والتطويب النهائي من النظام السوري حصل عام 1996. فما هو حاصل اليوم، وأقصى ما تطمح اليه تركيا، هو الاعتراف لها بالمحافظة كمنطقة نفوذ، مع حقها في تمركز قواتها المسلحة لمنع التهديد الكردي عن أراضيها.
وعلى غرار ما فعله الاستعمار الفرنسي سابقاً، فإن تركيا أردوغان التي تقر بدور روسيا، الشبيه بدور فرنسا، ترى أن أهدافها في إلحاق إدلب ستـــكون عبر الاتفاق مع روسيا. لم تعد هذه تكهنات، فالعلاقات الروسية التركية خطت خطوات مهمة مؤخرا باتجاه الاتفاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية. البلدان يحتاج كل منهـــما الآخر، ولن يكون صعباً على الرئيس بوتين إعطاء حليفه قطعة من الأرض مقابل الخدمات التي يؤمنها أردوغان له.
أين تقف الولايات المتحدة من هذا المخطط؟ ليس في هموم أميركا المحافظة على الحدود والأراضي، فلن تكون رافضة لأي إلحاق لإدلب في المرحلة الراهنة مقابل مصالح استراتيجية مع تركيا. اما النظام السوري، فليس في مقدوره إعلان معركة قومية ضد سلخ قسم من أرضه، طالما انه سلم لروسيا بالاحتلال الشامل في السياسة والعسكر والجغرافيا.
تعليقات: