إمّا أنّ القضاة تجاهلوا رغبة وزير العدل، سليم جريصاتي، فلم يُبادروا إلى «إعادة النظر» في استيفاء طابع قضائي (رسم مالي) مقابل زيارة السجناء، وإمّا أنّهم أعادوا النظر، فعلاً، لكن مِن غير أن يخرجوا بنتيجة جديدة تدفعهم إلى التراجع عن قرارهم، فبقوا عليه. النيابات العامّة، إلى يوم أمس، كانت تستوفي ذاك الطابع مِن ذوي السجناء وسائر طالبي «المواجهة». خمسة أيّام مضت على رسالة «إعادة النظر» مِن وزير العدل إلى مجلس القضاء الأعلى. لم يتغيّر شيء. الوزير كان قد «فنّد» قرار القضاة مِن الوجهة القانونيّة، إلى درجة أنّه استخدم اللغة الفرنسيّة في فقرة كاملة، لكون المشّرع اللبناني يستلهم عادة، وتاريخيّاً، مِن القوانين الفرنسيّة. وصل الأمر بالوزير أن أشار للقضاة إلى أنّ مراجعات مكثّفة وردته، مِن بعض منظّمات الأمم المتّحدة، حيث «أبدوا استغرابهم مِن هذا القرار الذي يتعارض مع الاتفاقيّات الدوليّة وشرعة حقوق الإنسان، ولا سيما أنّه يُجافي حقّ الأسرة بزيارة السجين بشكل غير مشروط». نجح الوزير هذه المرّة في الظهور، أمام الرأي العام، بصورة المدافع عن حقوق «المعترين». لكن، إلى الآن، المسألة لم تتجاوز الكلام. سابقاً اختلف الوزير مع القضاة، لأكثر مِن سبب، مِنها مسألة اعتكاف الأخيرين عن العمل احتجاجاً على تهديد امتيازات لهم في قانون سلسلة الرتب والرواتب. آنذاك بدا الرأي العام أقرب إلى موقف القضاة. اليوم المسألة مختلفة. لا أحد يُحبّ القضاة، بصدق، ثم يُحبّ لهم أن يظهروا كلاهثين خلف ألف ليرة مِن جيوب أفقر الفقراء: ذوي السجناء.
عموماً، ربّما أمكن القضاة أن يبقوا على موقفهم، أن يتصلّبوا، لكن هذا يستوجب مِنهم، وفق الأصول، الرد بالقانون على ردّ الوزير. قرارهم باستيفاء ذاك الرسم المالي غير مقنع. نصّ القانون في جهة، وقرارهم في جهة أخرى. إمّا أن يُطبّق النصّ القانوني كما هو، وإمّا أن يُعمد إلى تعديله، أو إلى إصدار قانون جديد، ولكن أن يتم «التذاكي» على النصّ، بطريقة ارتجاليّة، ومِن القضاة أنفسهم... فهذه مسألة بالحدّ الأدنى غير لائقة. لا يحقّ لِمن يسجن الناس وفق نصوص القانون أن يقفز هو نفسه فوق تلك النصوص. إلى ذلك، أصدرت مفوضيّة العدل والتشريع في الحزب التقدّمي الاشتراكي، أمس، بياناً طالبت فيه السُلطة القضائيّة بـ«الرجوع عن قرارها الجائر بحقّ السجناء وأهلهم... فالنص القانوني، الذي يجيز فرض دمغة الطابع القضائي على الاستدعاءات القضائيّة قد حددها على سبيل الحصر. وبالتالي، لا يجوز التوسّع في التفسير وإعمال القياس لتحقيق رسم جديد ينتقص من حقوق السجين ويزيد من الأعباء المترتبة عليه». أسهب البيان في شرح الواقع القانوني لقرار القضاء، فأوضح أنّ «اعتبار إذن الرؤية (مقابلة السجين) استدعاءً أو مطلباً قضائياً يقع في غير موقعه القانوني، باعتبار أنّ القانون أعطى الصلاحيّة للنائب العام، بإعطاء الإذن كحالة روتينيّة هدفها تنظيم الزيارة من الناحية الزمنيّة والأمنيّة، وبالتالي لا يقع الإذن في موقع الاستدعاء».
طالب الحزب الاشتراكي السُّلطة القضائيّة بالرجوع عن قرارها الجائر بحقّ السجناء وأهلهم
بالمناسبة، في الدول التي يتقلّد بها لبنان، في القانون تحديداً، لا يوجد «ضريبة ماليّة» مقابل زيارة السجناء. لم يُسمع عن شيء مماثل في العالم، اللهم إلا ما حصل أخيراً في مصر، حيث سادت «نظريّات» الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في اختراع أساليب فريدة لجني المال. تلك الاختراعات «السيساويّة» تُقابل في العالم بالسخرية، غالباً، وتحوّل إلى نكات للضحك والتسلية، وهذا ما حصل في هذا الصدد داخل مصر نفسها. هل يريد قضاة لبنان جعلنا «مَضحَكة» أيضاً؟ مفوضيّة العدل والتشريع في «الاشتراكي» أشارت كذلك، في بيانها، إلى الإطار الإنساني والحقوقي، فقالت: «في الوقت الذي تسعى فيه المنظّمات الإنسانيّة والجمعيات الحقوقيّة والمجتمع المدني برمّته إلى الإضاءة على حقوق السجين وتحسين واقعه المتردّي في السجون اللبنانية (...)، تطالعنا السلطة القضائيّة وتفاجئنا باستحداث ضريبة على حق السجين بزيارة أهله وأقربائه وأصدقائه، واضعة نفسها موضع المشرع وموقع مفسّر القوانين، ومستعينة بالرأي والقياس والاستدلال لتمرير هذه الضريبة من دون وجه حق».
أخيراً، لا أحد يُناقش في أنّ «صندوق تعاضد القضاة» بحاجة إلى مصادر تمويل، وأنّ للقضاة الحقّ، ضمن الحدود المألوفة، في تحسين أوضاعهم الماليّة وتحصين أمنهم الاجتماعي، ولكن أن يحصل هذا، بطريقة ضبابيّة، على حساب السجناء وذويهم، فهذا يصعب التصديق عليه والتصفيق له. القضاة، أكثر مِن أي أحد آخر، يعرفون أوكار الفساد في بلادنا. إنّه هناك، عند أصحاب الجيوب المنتفخة. هناك، حيث يُمكن تحصيل الكثير مِن المال، فيُمكن القضاة، إن لم ينجحوا في استعادة المنهوب، أن يفرضوا ألف طابع مالي مِن غير أن يُلاموا أخلاقيّاً... بل سيجدوننا عندها نصفّق لهم ولا يُستبعد أن نُسارع لإقامة النصب التذكاريّة لهم.
تعليقات: