«دولة الرئيس سعد جالس يومين في السعوديّة، فأرجو ما تطلع اشاعات انو مخطوف»، ويقهقه سموّ الأمير، يضحك هو على نكتته لفرط هضامتها. نكتة ذكيّة وملتبسة حتّى أنّها حيّرت الحاشية، فتصاعد التصفيق خجولاً ومتردداً. مسكين الرئيس سعد الحريري. مسكين وبائس في تلك اللقطة القصيرة التي دارت حول العالم، وتفوّقت على «فيديو ميشال أبو سليمان» المزعوم. مثير للشفقة والاشمئزاز. لا ليس مغلوباً على أمره، بل يستحق ما يجري له وأكثر. كالتلميذ المقاصص جلس إلى يمين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في الكرنفال المعدّ خصيصاً للاحتفال بانتصار الأول، واذلال الثاني. أين من عينيْ الشيخ سعد تلك النظرة الكاسرة التي كانت تقدح شرراً مكبوتاً، لدى ابن الصحافي المغدور جمال خاشقجي، المرغم على مصافحة اليد التي لم يجفّ عليها دم والده بعد. ذاك كان مشهدا شكسبيرياً بامتياز. مع سعد الحريري، نحن في أحد مقالب غوار الطوشة مكسيموم! لقد جاء بدوره إلى وكر جلاده بالمهمّة نفسها: تبرئة هذا الأخير من حفلة المهانة التي أنزلها به، متلاعباً به كدمية، ومعه بلبنان وبشعبه وباستقراره وبسلمه الأهلي. يومذاك إلتقط اللبنانيون أنفاسهم، وتكاتفوا للمطالبة به، وفرضوا النهاية السعيدة التي لم تكن مضمونة أبداً!
في المرّة الأولى استُدرج سعد الحريري إلى الفخ. هذه المرّة ذهب إلى حفلة اذلاله صاغراً. بالأمس، بعد قرابة عام على اختطافه، عاد رئيس حكومتنا المكلّف إلى مسرح الجريمة. كانت عيناه فارغتين، كأنّه ما زال ينظر إلى بولا يعقوبيان حين زارته في سجنه لتقنعنا أنه يمضي إجازة سعيدة في جنّة عدن. بدت ذاكرته ممسوحة، أما كرامته فتركها في غرفة الحرس. بدا مندمجاً في دوره ككومبارس، وهو يقبّل بشغف اليد التي انهالت عليه بالسحاسيح. كلا لم يعد من المحظورات التحدّث عن ذلك، لا مكان للحياء في هذه المهزلة الموجعة. لا يمكنك أن تحترم من لا يحترم نفسه، مهما حاولت أن تضبط نفسك! الأمير المتغطرس الذي اشترى عفّته بمئات المليارات «من كيس» أهل الجزيرة، وأفلت من العقاب بفعل مسرحيّة رديئة تلقفها الكون المشدوه بطيب خاطر، أراد أن يتوّج نشوته الأمميّة بهذه اللذة الصغيرة، اللبنانيّة النكهة: سحسوح أخير لـ«دولة الرئيس سعد» كما يسميه مناغشاً ومدلّعاً. محمد بن سلمان في هذه اللحظة يشعر بالقوّة والثقة والجبروت. يستطيع اليوم أن يقطّع الكرة الأرضيّة بمنشاره إذا أراد. ضحكته تصل إلى الحُديدة. هو الذي ارتكب احدى أبشع وأغبى الجرائم في تاريخ دمويّ طويل، يعرف أنّه أغضب قليلاً الديمقراطيات الغربية التي اتسعت ذمّتها تدريجاً على وقع الجحيم اليمني. لكن العالم الحرّ قلبه كبير، وقد عاد فاكتشف براءة «مجنون الحكم»، وخرّ بضمير مرتاح عند «كندرته». اتركوا هذا الاصلاحي الكبير، يتفرّغ الآن للمضي في اصلاحاته، وفي «الدفاع عن العروبة»، والترويج لـ«الاعتدال» و«الانفتاح»، انتظروا لتروا كيف سيحوّل مملكة آل سعود إلى «جمهورية فيمار» العربية المعاصرة. أيها الأصدقاء، حين يعطيكم الغرب دروساً في الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان مستقبلاً، ابصقوا بلا تردد على شهود الزور… ابصقوا دماً وقيحاً في وجوه أسياد هذا العالم الذي يظنّ نفسه «حرّاً».
«دولة الرئيس سعد جالس يومين في السعوديّة، فأرجو ما تطلع اشاعات انو مخطوف». يا للدعابة السمجة! «بكامل حريّتي» يعلّق «دولة الرئيس» جذلان، ويرفع يده كموسوليني. يا للتواطؤ المعيب! المواطن اللبناني ينظر الى المشهد التراجيكوميدي ويتحسّس كرامته، ويسأل: أهذا رئيس حكومتي؟ أهذا رمز السيادة والعزة الوطنية؟ قبل عام كان سعد الحريري بطلاً قوميّاً. حمّلنا ضميرنا ورأينا فيه زعيماً وطنيّاً، يستطيع أن يطفو فوق تلك «الفرصة التاريخيّة» («الأخبار»، 10 أكتوبر 2017)، ويجمع حوله كل اللبنانيين، كاسراً قوقعة الطائفيّة والمذهبيّة. كان بوسعه أن يعود زعيماً عربياً. لكن، للأسف، من شبّ على شيء… لم يعد الشيخ سعد بعد الانتخابات الأخيرة حتّى زعيماً مذهبياً قوياً. وفي الأشهر الأخيرة لم يعد يطلب إلا «السترة»، ولولا النظام الطائفي وتحالفاته المَرضيّة، لما بقي في مقدم المشهد. إن الطائفة التي يدّعي تمثيلها، تستحق أكثر من ذلك. إننا نستحق في لبنان قيادات سياسية ورؤساء حكومة أرقى من هذا النموذج المثير للشفقة.
إذا كانت شهيّة الدب الداشر ما زالت مفتوحة… وإذا أراد أن يمارس هوايته «الاصلاحيّة» المفضّلة، ويستبقي «دولة الشيخ سعد» عنده في الريتز ضيفاً عزيزاً… في اعتقادنا أن الشعب اللبناني المطأطأ الرأس، المخطوف من قبل وكلاء الاستعمار وإسرائيل في المنطقة، ورهينة النظام المافيوي المتهاوي، الشعب الضحيّة سيقول لسمو الأمير هذه المرّة: لم نعد نريده. احتفظ به. صحتين ع قلبك. خليه عندك!
الحريري في الرياض: «مخطوف» بكامل حريّتي!
لم تكن الحكومة هي الحدث، أمس، بالرغم من إعلان الرئيس سعد الحريري اقترابَ موعد تشكيلها. كان الحدث في الرياض. هناك حيث جلس الحريري عن يمين ولي العهد المتهم بجريمة اغتيال جمال خاشقجي، يضحك معه على نكتة مستمدة من أيام احتجازه الطويلة، لكنها تطمئنه إلى أنه لن يُخطف مجدداً
بأيّ وجه يزور الرئيس سعد الحريري السعودية، وبأي لسان يتحدث؟ هل بالوجه الذي صُفع مِن الحارس الأمين لمحمد بن سلمان سعود القحطاني، على ما نقلت رويترز، أم بالوجه الذي انفجر ضاحكاً لنكتة سمجة لولي العهد السعودي يعلن فيها أن رئيس الحكومة المكلف «جالس يومين في السعودية، فأرجو أنه ما تطلع إشاعات أنه مخطوف». أين مصدر فرح الحريري؟ هل هو في عدم مواجهته لمصير شبيه بمصير جمال خاشقجي، أم لأنه أخيراً تمكن من لقاء ابن سلمان الذي يعاني من شبه قطيعة له ولمؤتمره... أم تراه أعجب حقاً بردّ «طال عمره» على من «يتهمه» بخطفه وإجباره على إذاعة بيان استقالته من الرياض يوم 4 تشرين الثاني 2017؟ سعادة الحريري حفّزته ليسترسل في النكتة، قائلاً: «وبكامل حريتي». هذه المرة قد يكون الحريري باقياً بكامل حريته فعلاً، بالرغم من أنه سبق أن أشار إلى أنه ذاهب إلى السعودية ليوم واحد، لكن هذا لا يلغي أن كامل حريته لا تزال منقوصة منذ قرر ابن سلمان احتجازه منذ عام ومنذ قرر أن يكون مع السعودية ظالمة أو مظلومة.
كان يمكن ما قاله ابن سلمان أن يكون مزحة فعلاً لو أنه لم يسبق أن اختطف رئيس وزراء لبنان، ولم يفرج عنه إلا بعد وساطات دولية وتضامن داخلي، عبّر عنه بالمساعي الرسمية الاستثنائية ثم بالتظاهرة الشعبية التي باركت له الحرية من المعتقل السعودي. الحريري نفسه أوحى مراراً أنه خُطف، لكنه مع ذلك اعتبر أن ما حصل شأن خاص لا يحق للبنانيين أن يعرفوه ويعرفوا كيف تصرفت دولة «صديقة» مع رئيس حكومتهم. هو شأن سعودي يخصّ حكام المملكة وأمراءها وموظفيها، وإن كانوا برتبة رئيس وزراء.
بعيداً عن الرقص على الجثث، وعن استغلال الحريري لكل فرصة ليقدم الولاء إلى ابن سلمان، مشيداً تارةً بالبيان السعودي الذي يبرر مقتل خاشقجي بنتيجة شجار، أو مواجهاً، تارة أخرى، لـ«الحملات المغرضة التي تتعرض لها المملكة»، فهو لم ينسَ أن مهمته الأولى هي تشكيل الحكومة. وقد أشار، في جلسة شارك فيها، في مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار» في الرياض، إلى جانب محمد بن سلمان وولي العهد البحريني سلمان بن حمد آل خليفة وحاكم دبي محمد بن راشد، إلى أنّ الحكومة ستبصر النور «في غضون الأيّام المقبلة»، مؤكداً أنها «ستكون صورة عن المجلس النيابي، الذي أقرّ كلّ القوانين الضرورية من أجل تنفيذ مؤتمر سيدر».
القوات تتهم رئيس الجمهورية بإلغاء موعد استقبال الرياشي بسبب مقال صحافي
ومقابل التفاؤل الحريري في الرياض، الذي قد تتوضح مآلاته بعد عودته، كانت الأجواء في بيروت تشي باستحكام العقد الحكومية، ولا سيما عقدتا تمثيل القوات وتمثيل سُنّة 8 آذار، وبالتالي تأخير التشكيل. ففيما صار جلياً أن رئيس الجمهورية ليس بوارد التخلي عن حقيبة العدل، لا تزال القوات تصرّ على حقيبة وازنة، إن لم تكن العدل، فمن وزنها. وفي السياق نفسه، دخلت العلاقة بين القوات والتيار الوطني الحر بعداً جديداً من التصعيد، انضم إليه رئيس الجمهورية بنفسه، ملغياً موعداً مع الوزير ملحم رياشي. وفيما أوضحت رئاسة الجمهورية أن إرجاء الموعد جاء بسبب موعد طارئ للرئيس ميشال عون، أكدت مصادر قواتية أن الإرجاء جاء على خلفية المقال الذي نشرته صحيفة «الجمهورية»، أمس، وتضمّن «محضر اللقاء» الذي جمع رياشي وجبران باسيل منذ أيام، والذي يقول فيه رياشي لباسيل: «بفضلك سيرحل المسيحيون في القوارب».
إلى ذلك، وفيما تردد أن الرئيس المكلف حسم قراره عدم تمثيل سُنّة 8 آذار في الحكومة، فقد زاد هؤلاء من إصرارهم على التمثّل بوزير، مستفيدين من الغطاء الذي وفّره حزب الله لمطلبهم، تأكيداً منه لضرورة أن تطبَّق المعايير نفسها على الجميع. وفيما توقعت مصادر مطلعة أن يُصار إلى حسم هذ الأمر بأن يتمثّل هؤلاء من حصة رئيس الجمهورية، لم تستبعد أن يسعى حزب الله إلى إقناع الحريري بالعدول عن رأيه، ربطاً بالعلاقات المتينة التي تجمع الطرفين.
الحريري في الرياض: «مخطوف» بكامل حريّتي!
تعليقات: