يغادرونه مجبرين
لبنان في المرتبة العالمية الأولى في كثافة مهاجريه (1)
"أنا مهاجر اذاً أنا لبناني" شعار حمله اللبنانيون على مر السنين· فالهجرة مأساة مزمنة يتعامل معها اللبنانيون منذ وُجدوا· ويحتل لبنان حالياً أعلى نسبة مهاجرين في العالم إذ تشير دراسة المنظمة العالمية للهجرة إلى أن لبنان يشكل البلد الأول في العالم من حيث كثافة الهجرة مقارنة بعدد سكانه·
وبالرغم من أن الهجرة تعتبر حلماً للكثيرين، الا أنها تحوّلت في لبنان الى عملية "تهجير" مدروسة تقودها السياسات الأمنية والاقتصادية والعسكرية التي يعاني منها هذا البلد الصغير بمساحته، الكبير بالأطماع الإقليمية والدولية·
وها هم اللبنانيون ينتشرون اليوم على مساحة الكرة الأرضية يكملون حياتهم بعيداً عن الـ 10452كم2 ولا تربطهم بالبلد الأم إلاّ زيارات "خاطفة" أو علاقات مع الأقارب· ومن يفكر منهم في العودة يعود وفي داخله صراع العودة - البقاء·
وفي ظل غياب سياسة حكومية واضحة ودقيقة لجهة تثبيت مواطنيها في وطنهم - وهو الأمر الغائب حالياً عن الدفاتر الإصلاحية للحكومات المتعاقبة كما عدم وجود أرقام مثبتة وواحدة حول عدد المهاجرين اللبنانيين ولا أماكن وجودهم، ما يقلل من أدراك هول المشكلة - يبقى 11 مليون مهاجر لبناني (وهو الاعتقاد السائد) رقماً قابلاً للزيادة يوماً بعد يوم·
يكاد يكون هناك إجماع على أن الهجرة اللبنانية هي الأقدم والأضخم بين هجرات الشعوب العربية قياساً إلى تعداد سكان لبنان· ويبرر المغتربون اللبنانيون هجرتهم بأنهم يبحثون عن وطن يؤمن لهم فرص العيش والأمان ومصدر رزق لهم ولأولادهم·
غير أن الهجرة اللبنانية هي عملية تهجير فرضتها الظروف الأمنية والسياسية والمعيشية حتى أصبحت هذه الهملية "جزّاراً وطنياً" وتفرغ لبنان من قواه العاملة وأدبائه ومفكريه وشبابه·
وتعتبر المشاكل السياسية والأمنية من أكثر ما دفع باللبنانيين الى الهجرة· وبالرغم من إندفاع الكثير من اللبنانيين نحو الهجرة الا أنه ليس هناك من تقدير لعدد اللبنانيين الذين هاجروا من لبنان·
تقول النقيب نور عيد من المديرية العامة للأمن العام بأنه يتعذر معرفة عدد المهاجرين اللبنانيين من خلال احصاءات الأمن العام كون هذه الاحصاءات تتعلق فقط بضبط حركة الدخول والمغادرة دون معرفة القصد من السفر اذا ما كان للهجرة أو للعمل·
أعداد المهاجرين
وفي ظل غياب أي معلومات وأرقام دقيقة من قبل المديرية العامة للأمن العام عن أعداد اللبنانيين المهاجرين الى بلاد العالم· جهد العديد من الباحثين والأساتذة الجامعيين لتقدير وتحديد عدد المهاجرين اللبنانيين·
فثمة من يزعم أن عددهم هو 16 مليون نسمة· ولكن الإعتقاد السائد هو أن عددهم يبلغ 11 مليوناً في حين أن المقيمين في لبنان من اللبنانيين لا يزيدون عن 4 ملايين·
يقول الباحث والأستاذ في الجامعة اللبنانية الدكتور عصام نور الدين إنه يوجد 11 مليون لبناني في العالم من أصل 15 مليوناً وهو عدد اللبنانيين الإجمالي، فيما ينتظر 68% من المقيمين تأشيرة الهجرة·
وتشير دراسة المنظمة العالمية للهجرة الى أن لبنان قد يشكل البلد الأول في العالم من حيث كثافة الهجرة مقارنة بعدد سكانه· كما تشير الدراسة الى أن عدد اللبنانيين المقيمين في البرازيل يفوق الستة ملايين شخص· ويصل العدد في كل من أميركا الشمالية وباقي بلدان أميركا الجنوبية الى ستة ملايين مهاجر· بينما تتقاسم كل من أوروبا وأفريقيا والبلدان العربية وخاصة الخليج نصف مليون مهاجر·
من ناحيتها، تشير المجلة الاقتصادية الناطقة بالفرنسية Le Commerce du Levant الى أن عدد الذين هاجروا من عام 1975 حتى عام 1995 يزيد على 786 ألفاً، وأن عدد الذين هاجروا أثناء الفترة بين 1975 و1990 هو بحدود 950 ألفاً· كما تراجعت الهجرة عام 1991 بعد إنتهاء الحرب اللبنانية وعادت نسبة لا تذكر الى الوطن للعيش فيه وبلغ رصيد الهجرة بين 1991 و1994 نحو 48 ألف شخص·
لكنه مع دخول البلاد في أزمة اقتصادية حادة وتباطؤ النمو وتفشي البطالة، إزدادت أعداد الذين يسعون الى الهجرة بحثاً عن لقمة العيش ومستقبل أفضل·
ويشير مسح المعطيات الاحصائية للسكان والمساكن الذي أعدته وزارة الشؤون الاجتماعية بين أعوام 1997 و2004 الى أن عدد المهاجرين هو نحو 44 ألف لبناني سنوياً بينما إرتفع هذا العدد منذ عام 2005 الى نسبة تتراوح بين 60 و65 ألفاً سنوياً وبلغ ذروته خلال حرب تموز 2006 ·
وتفيد دراسة أعدها الباحث اللبناني شربل نحاس بأن 600 ألف مواطن هاجروا بين عامي 1975 و2000 · وأشار نحاس الى أن ما بين 42 و60 ألف لبناني هاجروا سنوياً بين عامي 1997 و2000 لافتاً الى أن النسبة الأعلى من المهاجرين تبدأ مع فئات الشباب·
وتشير دراسة أخرى للدكتور علي فاعور الى أنه بين عامي 1991 و2000 هاجر 350 ألفاً من فئة الشباب· وبين عامي 2001 و2005 هاجر 210 آلاف من الشباب فيما هاجر خلال تموز 2006 أكثر من 120 ألفاً·
أما الدراسة التي أعدها النائب السابق رئيس مجلس الانماء والاعمار الدكتور بطرس لبكي فتشير الى أنه منذ العام 1991 بلغ عدد اللبنانيين الذين هاجروا لبنان 820 ألفاً بينهم 170 ألفاً هاجروا العام 1997 و180 ألفاً هاجروا في العام 1998 ·
وأوردت دراسة إقتصادية حكومية أن 16 ألف مواطن يهاجر شهرياً من لبنان، ما يعني أن لبنان يفقد سنوياً حوالى 100 ألف من مواطنيه أي ما يقارب مليون مواطن في عشر سنوات·
وتدل الإحصاءات المرتكزة على الخارجين والعائدين الى لبنان أن 120 ألف لبناني لا يعودون الى لبنان· كما أنه بين ربيع 1975 وحتى خريف 1990، هاجر من لبنان بصورة شبه نهائية الى بلاد الاغتراب البعيدة مثل كندا وأستراليا والولايات المتحدة وجنوب أميركا 400 ألف لبناني·
تاريخ الهجرة ومراحلها
وكما يختلف الباحثون في تقدير عدد المهاجرين اللبنانيين في العالم، يختلفون في تحديد بداية تاريخ الهجرة من لبنان· فيعزو باحثون تاريخها الى اجتياح الأسطول الروسي لسوريا عام 1772 وقصفه مدينة بيروت فيما تحدث آخرون عن اجتياح نابليون بونابرت لفلسطين وهزيمة الجيش العثماني وما خلّفه ذلك من استنفار عسكري واقتصادي طال اللبنانيين·
إن "الانتشار اللبناني" الكثيف والمميز في العالم أصبح حقلاً خصباً للباحثين، لما فيه من غنى وتنوع· وبات دارسو الاتجاهات العامة للموجات الاغترابية اللبنانية وتطورها اليوم ينطلقون في أبحاثهم من توزيع الهجرة في التاريخ الحديث والمعاصر منذ منتصف القرن التاسع عشر، وحتى اليوم، في مراحل تاريخية تختلف في عددها بين كاتب وآخر· فهي عند البعض ثلاث مراحل رئيسية: المتصرفية، الانتداب الفرنسي والإستقلال·
ويشير كتاب "اللبنانيون في العالم - قرن من الهجرة" للكاتبين ألبرت حوراني ونديم شحادة الى أن الهجرة اللبنانية تقع في أربع مراحل تتوزع على الشكل التالي:
- المرحلة الأولى: من القرن السابع عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر سافر خلالها عدد محدود من اللبنانيين والسوريين الى مصر وإلى أبرز المدن التجارية بين أوروبا والشرق الأدنى (ليفورنو، مرسيليا، مانشستر)·
- المرحلة الثانية: "مرحلة المتصرفية" من منتصف القرن التاسع عشر حتى السنوات الأولى من القرن العشرين· سافر خلالها عدد غير محدود الى الاميركيتين الشمالية والجنوبية رغم محاولة الامبراطورية العثمانية الحؤول دون السفر بسبب الحاجة الى عناصر شابة تخدم في الجيش العثماني· وكان معظم المهاجرين شباناً مسيحيين ودروزاً أكثرهم من مستوى إجتماعي متدنٍ وثقافة محدودة·
- المرحلة الثالثة: مرحلة الانتداب بعد الحرب العالمية الأولى، انغلقت أبواب الولايات المتحدة وبعض البلدان الاخرى في وجوه الوافدين الجدد وإنفتحت أبواب أخرى في المستعمرات الأفريقية التي كان يديرها البريطانيون والفرنسيون وكانت تحتاج الى عناصر جديدة·
معظم المهاجرين كانوا من قرى الجنوب اللبناني بعد أن ضاقت بهم محدودية الحالة الاقتصادية في جنوب لبنان ونادتهم الفرص المتاحة في البلدان الافريقية·
- المرحلة الرابعة: "اللجوء الى دول النفط" مع نمو الاقتصاد في دول الخليج العربي في الستينيات واندلاع حرب لبنان عام 1975، هاجر لبنانيون كثيرون الى الولايات المتحدة ملتحقين بأهل لهم هناك أو متكلين على كفاءاتهم الشخصية·
ومعظمهم (إن لم يكونوا جميعاً) من المتعلمين والمثقفين والتقنيين المهرة ومن جميع الطوائف والمذاهب، ومن لم يتجه الى هناك، هاجر نحو كندا وأستراليا وأميركا اللاتينية وأوروبا الغربية، فيما توجه البعض الآخر الى المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج حيث كان النمو الاقتصادي السريع في حاجة الى طاقات جديدة من كل نوع لأعمال تمتد من الحرفية الى التدريس والتوظيف والحاجة الى الأطباء والمقاولين·
غير أن المرحلة الأبرز لعملية "التهجير" اللبنانية بدأت من العام 1990حتى الآن نتيجة للظروف السياسية التي مر بها لبنان من اغتيالات وتراجع في الأوضاع الاقتصادية من غلاء متزايد للمعيشة ثم حرب تموز التي دفعت بالكثيرين إلى الهجرة
· انتماءات المهاجرين
من خلال ما تقدم، ليس من المبالغة القول إن غالبية المهاجرين اللبنانيين هم من جميع الطوائف والمستويات العلمية·
وتشير الدكتورة غنوة خليل الدقدوقي في كتابها "أمراض الحروب" الى أن 25% من الشعب اللبناني أُجبر على الهجرة الداخلية و33% على الهجرة الخارجية بين العامين 1975 و1997 ·
وتضيف الدقدوقي أن نسبة النزوح وصلت الى 62% في جبل لبنان و24% في الجنوب و85 في بيروت·
كما تشير إحصاءات مجلس الانماء والاعمار الى أنه ومنذ العام 1991 بلغ عدد اللبنانيين المهاجرين 820 ألفاً، 16% من أبناء البقاع و6.19% من أبناء بيروت و2.22% من أبناء الشمال و3.19% من أبناء الجنوب و3.17% من أبناء الجبل·
وأظهر الإستطلاع الذي أجرته مؤسسة الأبحاث المستقلة في بيروت "انفورميشن أنترناشونال" أن الهجرة بين أوساط العمال الشباب تتجاوز "الانتماء الديني"· إذ أن 22% من الشبان "الشيعة" و26% من الشبان "السنة" يدرسون خيار الهجرة·
اتجاهات الهجرة
تحتل كندا المرتبة الأولى كدولة مقصد لـ 51.5% من المهاجرين اللبنانيين تليها الولايات المتحدة بـ 17% فأستراليا 14.1% وفرنسا 5% وألمانيا 4.1%·
وتشير تقديرات التقرير الاقليمي لهجرة العمل العربية الصادر عن جامعة الدول العربية في آذار 2006 بأن نحو 5300 مهاجر لبناني إتجهوا الى كندا خلال الفترة من 1992 وحتى 2001 · ووصل عدد اللبنانيين المهاجرين الى أوروبا وأميركا الشمالية من 65.8 ألفاً الى 66.3 ألفاً خلال الفترة من عام 1991 - 2000 · واتجهت أعداد أخرى الى كل من قبرص وسوريا والاردن لم يبين التقرير أعدادها· كما إتجه البعض الآخر الى أميركا والدول الافريقية التي تشهد وجوداً لبنانياً في الكثير من الأنشطة الاقتصادية ويوجد اللبنانيون بشكل كبير في كل من أستراليا وأميركا اللاتينية·
أسباب الهجرة
في دراسة للمؤسسة الدولية للمعلومات حول الهجرة وأسبابها منذ عام 1975 وحتى 2005 ظهر أن 37% هاجروا بسبب عدم الإستقرار السياسي و29.1% نتيجة الحروب والصراعات المسلحة و20% نتيجة الركود الاقتصادي و10.4% ارتباطاً بندرة فرص العمل و10.4% لعدم القدرة على تلبية الحاجات التعليمية و6.3% من أجل الزواج و6.2% دعاوى حقوق رعاية وولادة خارج لبنان· وهكذا نرى أن دافع الهجرة الأساس هو اضطراب الوضع السياسي والاقتصادي الذي يشكل ما مجموعه 86% من المهاجرين·
وفي كتابه "الهجرة الحديثة من لبنان وتعاطي المؤسسات الرسمية والأهلية معها (1860 - 2000)" يشدد الدكتور جهاد نصري العقل على أن الأحداث الأمنية المتلاحقة التي مر بها لبنان ابتداء من إجتياح ابراهيم باشا المصري لسوريا ولبنان عام 1831 وإنتهاء بالأحداث الداخلية الدموية المدمرة التي استمرت 15 عاماً من 1975 الى 1990 تشكل مفصلاً أساسياً في مراحل الهجرة اللبنانية·
ويليها الضغط الاقتصادي الذي يفسّر تركّز مصادر الهجرة في المناطق الجبلية التي أدى افقارها وندرة الموارد فيها الى البحث عن مصادر الرزق أينما توافرت·
ومن هنا كان الإنجذاب نحو مصر أيام فتح قناة السويس وإلى أميركا أيام طفرة البحث عن الذهب وإلى أفريقيا وأستراليا إثر إنفتاح هذه البلدان للإستثمار الخارجي وإلى البلاد العربية عند تدفق البترول فيها·
وأشار الدكتور العقل الى أن لبنان تعرض لضغط ديمغرافي نتيجة الهجرات الخارجية إليه وفي مقدمتها هجرة الأرمن عام 1985 وهجرة الأكراد عام 1925 اضافة الى ما ولّده إعلان "وعد بلفور" عام 1917 من تشتيت لعشرات الآلاف من الفلسطينيين باتجاه لبنان وإزدياد أعداد اللاجئين منهم بعد قيام "دولة اسرائيل" عام 1948 · هذه الهجرات دفعت الى المنافسة بين هؤلاء المهاجرين واليد العاملة اللبنانية ما ساهم بشكل بارز في هجرة اللبنانيين بحثاً عن فرص عيش ومصادر رزق في دول المهجر·
من هنا يمكن اعتبار أن الحروب المتتالية على لبنان شكلت عامل طرد للبنانيين المفكرين والأطباء والمهندسين والأدباء واليد العاملة وغيرهم·
تعليقات: