صهر رياض الصلح الذي رفضت زوجته الانحناء أمام فرح ديبا.
يختزن الديبلوماسي الدكتور سعيد الاسعد الكثير من الروايات الموغلة في تاريخ لبنان الحديث. أتاحت له الديبلوماسية التعرف الى كبار رحلوا والإضطلاع بمهمات كثيرة بقيت خلف الأضواء. يتباهى بأنه من جب الاسعديين الفقراء غير الإقطاعيين ويحمد الله ألف مرّة أنه لم يستزلم لأحد من أجل السلطة أو المال «لكنني ربيت عائلة صالحة وعلمت أولادي جميعهم».
عائلة الأسعد أساسا هي من تبنين. ومعلوم بأن جد العائلة علي بك الأسعد سكن في قلعة تبنين. لكن العائلة ما لبثت أن انقسمت الى فرعين قصد الأوّل بلدة الطيبة وتوجّه الثاني الى بلدة الزراريّة. اختار شبيب باشا وناصيف باشا الأسعد (الأخير هو جد سعيد الأسعد) السكن في الزرارية، فيما قطن عبد اللطيف الأسعد وكامل الأسعد (جدّ رئيس مجلس النواب السابق كامل الأسعد) الطيبة. لكن المصاهرة ما لبثت أن جمعت العائلتين مجددا بعد أن تزوج كامل بك الأسعد فاطمة إبنة ناصيف باشا الأسعد من الزرارية. «عمّتي فاطمة هي من أنشأت حسينية الطيبة، أوّل حسينية في الجنوب اللبناني وفي لبنان عام ,1925 وهي اختارت السكن مع الفلاحين وليس في منزل كامل بك».
يرفض الدكتور سعيد الأسعد بالتالي القول إنه ينتمي الى عائلة إقطاعية، «عندما كنت طالب طب في فرنسا وعيت على تصرفات أحمد الأسعد (والد رئيس مجلس النواب السابق كامل الأسعد) وهي لم تعجبني كشاب، لكن بالرغم من ذلك يجب الإعتراف بأن أحمد الأسعد كان يمتلك حسّا شعبيا قويا وكان يدرك تماما كيفية التعاطي مع الفلاحين، يعرف لغة الناس ويجالسهم ويناقشهم، وهو أعاد البريق الى صورة آل الأسعد، أما عدم تقديمه لخدمات فبسبب العجز لأن اللعبة السياسية طالما همّشت الطائفة الشيعية وأبعدتها من مراكز القرار».
طائفة مجرّدة من كلّ شيء
يعود الدّكتور سعيد الأسعد الى التاريخ السياسي للطائفة الشيعية في بداياته مما يشرح ما آلت إليه هذه الطائفة اليوم في واقعها السياسي: «كان المركز الثاني في الدولة (رئاسة مجلس النواب) من نصيب الطائفة ولم يكن يعني شيئا سوى العلم، وهو مجرّد من أية سلطة أو مكانة أو وجود. بقي الشيعة في وظائف متواضعة على الرغم من العزّ الذي وصل اليه أحمد الاسعد الذي لم يكن يستطيع أن يعيّن ضابطا أو موظّفا في الفئة الأولى لأن السلطة لا تتيح له المجال».
منذ عام 1943 ولغاية اليوم إنتقلت الطائفة الشيعية الى مكان بارز في العمل السياسي اللبناني، فهل ما نشهده اليوم من أزمة حكم هو «انتقام» يقوم به الشيعة من الحرمان الذي عانوه في الماضي؟
يجيب الأسعد: «هنالك أزمة سياسية كبرى تشمل لبنان كلّه، وبالنسبة الى الانتقام من الماضي «في شي منّو».
كان كامل الأسعد صديقا للدكتور سعيد الأسعد وقد زاره مرارا أثناء دراسته في فرنسا، وذهبا سويّا في رحلات صيد، الى أن عيّن سعيد الأسعد عام 1961 سفيرا في بغداد، وكان كامل الأسعد أثناءها وزيرا للتربية جاء الى بغداد مع أنور الصباح وعدد من النوّاب وسبّب التأخر في الوصول الى الموعد خلافا يدوم منذ 46 عاما !!! «كان لدينا موعدا مع وزير الخارجية العراقي هاشم جواد، الساعة الحادية عشرة، فإذا بكامل يصل متأخرا نصف ساعة! طار عقلي، «كلمة منيّ وكلمة منّو» وكدنا نتخابط، شتمنا بعضنا بصوت عال وكدنا نتذابح في صالون الفندق. أعقب هذا الشجار القوي برقية بعثت بها الى رئيس الجمهورية فؤاد شهاب جاء فيها: أمان أمان من كامل الأسعدّ وتصرفاته! أعجبت الرسالة الرئيس شهاب فلم يتجاوب مع محاولات كامل الأسعد عند عودته بإقالتي من منصبي».
أول جرّاح شيعي في ...المقاصد
ولد الدكتور سعيد الأسعد في الزرارية قضاء الزهراني في 23 أيلول عام .1928 والده القاضي حسيب الأسعد ووالدته خديجة الضاهر، بحكم وظيفة الوالد تنقلت العائلة بين الهرمل وزحلة وصيدا وطرابلس وتعددّت المدارس التي تعلّم فيها: من المدرسة الشرقية في زحلة الى مدرستي الفرير في طرابلس وصيدا، ثم مدرسة المقاصد في صيدا حيث تخرّج ونال شهادة الفلسفة.
سافر الى فرنسا حيث درس الطب في جامعة مونبولييه في الجنوب، ثمّ تخصص في الجراحة العامة متنقلا بين فرنسا وبين «المستشفى المركزي العسكري في أبيدجان» ـ شاطئ العاج بعد وساطة من الجنرال شارل ديغول شخصيا.
بعث سعيد الأسعد برسالة خطية الى ديغول طلب فيها التدخّل لصالحه لوظيفة في المستشفى المذكور حيث فرنسا الدولة المستعمرة، «كنت تعرّفت الى الجنرال ديغول عام 1941 حين زار جنوب لبنان. كنت ولدا صغيرا لكنني أتكلّم الفرنسية بشكل جيّد كوني تلميذ فرير، وما ان أرسلت له رسالة خطية من فرنسا طالبا مساعدة لمتابعة تخصصي حتى جاء الرّد إيجابا وبخطّ يده».
كان الدكتور الأسعد من أوائل الجراحين الشيعة في لبنان، سبقه الى هذه المهنة طبيب أو اثنان في الأكثر من أبناء الجنوب. في أواخر عام ,1956 وإثر عودته الى لبنان، تسلّم مستشفى المقاصد. لم يكن المستشفى تابعا لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية بل لمؤسسة خاصة ترعاها فايزة رياض الصلح التي كانت تشرف عليها مع زوجها رياض الصلح، «وبفضل السّت فايزة أسّس الأميركيون عام 1956 أفضل مدرسة تمريض وجهّزوها بأحدث المعدات والتجهيزات الأميركية».
كان نور الدين الرفاعي قائدا للدرك مديرا للمستشفى، فقصده الطبيب الشاب طالبا العمل «لأن لا أحد يوظفني كوني شيعيا ولا يوجد أي مستشفى شيعي في لبنان»، عرض عليه الرفاعي العمل كطبيب جرّاح بـ140 ليرة لبنانية ونبّهه بأنّ الممرضة في المستشفى تتقاضى 180 ليرة! فاجأ الدكتور الأسعد الرفاعي بقبوله.
كرّر له الرفاعي الراتب: 140 ليرة!!! أجابه ثانية: قلت إنني أقبل شرط أن أعمل دواما نصفيا، والمرضى الذين أدخلهم الى المستشفى أتقاضى عنهم أتعابي. بعد 3 أشهر صار راتبه 360 ليرة إذ تدفّق المرضى الشيعة على المستشفى «كوني أوّل «متوالي» في المقاصد، فصار المتاولة يقصدونني!»، يقول ضاحكا!
أنقذ دخول الأسعد الى المقاصد كثرا، فصار أحمد الأسعد يرسل المرضى مباشرة إليها على حساب وزارة الصحّة (كان زهاء 70 سريرا لوزارة الصحّة) «ومن رأس الخط الى المستشفى مئة متر»!.
في المستشفى المذكور تعرّف الدكتور الأسعد الى زوجته بهيجة رياض الصّلح، «كنت أجريت عملية جراحية لطبّاخة السيدة فايزة الصلح «أم عرب»، فإذا بالسيدة فايزة تعودها يوما برفقة ابنتها بهيجة التي لم تكن تتجاوز سنّ الـ15 من العمر (كان الأسعد في سنّ الـ26) وكنت خارجا من غرفة العمليات حين رأيتها للمرّة الأولى وأحببتها وتزوّجنا».
إنقلاب الثورة
بقي الدكتور الأسعد يقوم بمهمته الإنسانية الى أن اندلعت ثورة عام 1958 «كان زواجي من بهيجة منحني قوّة داخل المستشفى، إذ أن السيدة فايزة هي رئيسة مجلس الإدارة، وكان المشرف هو الدكتور محمّد خالد وعماد الصّلح مديرا، فصرت لولب المستشفى مع نخبة من الأطباء، اذكر منهم يوسف حتّي، جيد يجيان، عبد الرحمن شاتيلا، عبد اللطيف يشرطي وسواهم... عند بدء الثورة ترك الجميع المستشفى وبقي الأسعد الجرّاح الوحيد فيها. «في هذه الثورة كان ثمة حقد سياسي على آل الصلح لأنّ سامي الصّلح كان منبوذا ومحسوبا على كميل شمعون، ومن قام بالثورة هو صائب سلام وشقيقه سلطان والجنرال مصباح. وهم اعتبروا أنني أنفّذ سياسة آل الصّلح في المستشفى فبدأت المشاكل تتراكم ضدّي». لكنّ الأسعد كان يعالج جرحى الثورة جميعهم ومن المناطق كلّها «عندما كنت أطلب دما كنت أرسل الفائض منه الى مستشفى «أوتيل ديو» فيما الثورة قائمة بين مسلم ومسيحي. هذا الدم ذاته كان يعود الى مستشفى المقاصد لمعالجة الجرحى».
عمل ليلا نهارا في المستشفى لكنّه لم يتنبّه لسراديبها المظلمة «لم أكن أدري أنه في الطوابق السفلى للمستشفى كانت تعشش قيادة المخابرات السورية التابعة لعبد الحميد السرّاج والمسؤول عنها شخص يدعى ابو خلدون!». «نعم، إنّهم من أشعلوا الثورة في بيروت عام 1958! في الطريق الجديدة الناصرية وفي المقلب الآخر شمعون وأميركا!».
في تلك المرحلة توطّدت صلات الأسعد بمؤسس حزب الكتائب اللبنانية الشيخ بيار الجميل بعد أن أنقذ الكثير من المسيحيين الذين اختطفتهم المخابرات السورية، وكادت تقتلهم كما قتلت كثيرين آخرين بغية تأجيج الثورة بين المسلمين والمسيحيين على ما يروي الأسعد، «كنت أنقذهم، عندما أعرف بمكان وجودهم أتصل بالشيخ بيار وأخبره عن مختطفين جدد فيقوم باتصالاته مع صائب سلام وجماعة الثورة فيسلّمونهم وأقلّهم أنا بسيارتي!».
لم يغادر الدكتور سعيد الأسعد المقاصد إلا بعد أن تعرّض لإطلاق نار داخل المستشفى وكاد يقتل، ثم أحرقت سيّارته «الفورد»... «لم يدعمني أحد من الزعماء الشيعة، حتى أحمد الأسعد خبط طربوشه على طاولة صغيرة أمامه وقال بالحرف: «ياعمّي يا عمّي الهيئة بدّك تعمل سياسة!!!». لم يساعده لا احمد الأسعد ولا الزعيم الشيعي البيروتي رشيد بيضون ولا عادل عسيران، وفي الثورة سلّمت السيدة فايزة مستشفى المقاصد الى الرئيس الراحل صائب سلام.
الى الديبلوماسية
بقي الدكتور سعيد الأسعد بلا عمل ولا سند الى أن بدأ عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي كان يفتّش عن نخب شابّة، وكان سمع عن أعمال الأسعد الإنسانية فأوكل الى الياس سركيس الاتصال به وعرض عليه أن يكون مديرا عاما لوزارة الصحة، فقبل، لكنّه لم يصمد في هذا المنصب إلا شهرا واحدا حيث تشكّلت الحكومة الرباعية برئاسة حسين العويني ورفض صديقه الشيخ بيار الجميل وصديق رياض الصلح تثبيته في منصبه مفضّلا تثبيت جميل العانوتي «لأنّ المركز هو للسنّة ولا يجب الإخلال بالتوازن». عاود سركيس الاتصال به عارضا عليه أن يكون لشهرين أوثلاثة مديرا عام لوزراة الشؤون الاجتماعية إذ سيتم تعيين محمد صفي الدين سفيرا في بغداد، وبعد التشكيلات يعود مديرا عاما لوزارة الصحة! قبل الأسعد وبعد 4 أيام يتصل به سركيس قائلا «مش ظابطة لأن محمد صفي الدين تفاهم مع أحمد الأسعد وسيخوض الانتخابات النيابية، لذا سنعينه مديرا عاما لوزارة الشؤون الاجتماعية وأنت تصبح سفيرا في بغداد، تبقى عدة أشهر ثم تعود مديرا عاما لوزارة الصحة! وهكذا صار. لكنّ الأسعد لم يعد مديرا عاما لوزراة الصحة بل تقلب في مناصب ديبلوماسية عدة من بغداد الى عمان والكويت والمغرب وسويسرا وبلجيكا وحتى المجموعة الأوروبية، وترك الطب نهائيا عام .1959
كان متوجسا في منصبه الجديد كونه سفيرا شابا لا يتجاوز الـ27 عاما. يقول اليوم «افتكرنا الباشا باشا طلع الباشا زلمي». أرسى علاقات على أعلى المستويات في وضع صعب كان العراق خارجا من ثورة دموية بعد انقلاب على الملكية، «إستقبلت استقبال الفاتحين كوني أوّل سفير شيعي في تاريخ العراق أعيّن في بغداد بعد كاظم الصلح الذي بقي سفيرا متواليا هناك على مدى 16 عاما».
عيّن الأسعد سفيرا في طهران لكنه لم يذهب على الرغم من استلامه لأوراق إعتماده هناك، لأن زوجته السيدة بهيجة الصلح رفضت مرافقته تجنّبا للانحناء أمام فرح ديبا (زوجة شاه إيران)، «كنت أودع الرئيس شارل حلو لكنه علم بأن بهيجة لا تنحني إلا لربّها، فضحك طويلا وعاد وعيّنني مديرا عاما لوزارة السياحة وكان همّه إطلاق السياحة بين لبنان والعالم العربي وذلك عام 1967».
بقي سفيرا 33 عاما وعاصر عدة رؤساء من فؤاد شهاب الى شارل حلو الى سليمان فرنجية. يتوقف عند الأخير قائلا إنه كان يتمتّع بحسّ شعبي قويّ جدّا.
عام 1974 انعقد مؤتمر القمة العربية في الرباط. في تلك الزيارة سرّ الرئيس فرنجية كثيرا برؤية رئيس الأركان السوري يومها اللواء مصطفى طلاس، ثم طلب سرّا من الدكتور الأسعد تدبير لقاء بينه وبين الرئيس السوري حافظ الأسد، ومن دون إخبار تقي الدين الصلح وفؤاد نفاع وكانا يرافقانه، فدبّر الأسعد رحلة سياحية للرجلين الى فاس وفي موازاتها دبّر لقاء بين الرئيسين فرنجية والأسد دام ساعة و10 دقائق كسر الجليد الذي دام عاما كاملا بينهما بعد أحداث عام .1973
أثناء الأحداث اللبنانية عام 1978 لعب الدّكتور الأسعد دورا في تقريب وجهات النظر بين الكتائب والفلسطينيين ونظّم لقاء مصالحة بين الشيخ بيار الجميل والرئيس الراحل ياسر عرفات عام ,1978 إلا أن الأخير لم يحضر الى المغرب وأرسل موفدا عنه هو زهير محسن، عندها اقترح لقاء بين الجميل والملك الحسن الثاني الذي فوجئ برئيس حزب الكتائب يتحدّث عن العروبة والعداء لإسرائيل في ما كان الشيخ أمين الجميل يدوّن ملاحظات على دفتر صغير، ما أثار غيظ الملك الذي خاطبه بالفرنسية: لا يجوز أخذ ملاحظات في حضرة الملك. ولمّا غادر سحب الجنرال دليمي الدفتر من الجميل ولفلفت المسألة. لكنّ الأسعد عجز عن تنظيم لقاء بين الرئيس كميل شمعون وعرفات في المغرب إذ رفض الأول قطعا هذا اللقاء.
التجربة النيابية
انتخب الدكتور سعيد الأسعد نائبا عن محافظة الجنوب (قضاء مرجعيون ـ حاصبيا) في 6 أيلول عام 1992 ونال 102336 صوتا، «ورفضتُ الترشّح على لائحة «التحرير» التي رأسها نبيه بريّ في انتخابات عام 1996 فلم يحالفني الحظّ ونلت 57169 صوتا، بعد أن اعتذر «حزب الله» عن ضمي الى لائحته إرضاء لبرّي، وتكرر الأمر عام 2000 فآثرت ترك المجال لنجلي المهندس رياض الأسعد الذي نال منفردا 53 ألف صوت».
تعليقات: