في شهر كانون الثاني الماضي، ذهب ثلاثة أساتذة جزائريّين إلى مصر في إطار دعوة رسمية من مراكز بحوث وجامعات مصرية، ولكنّهم لم يعودوا إلى بلادهم بشعور من الرضى بعد رحلة علمية مفيدة، ولا بحكايات طريفة عن مصر واختلاف لهجتها عن اللهجة الجزائرية، بل بقصّة مروّعة لم تكن في الحسبان. روى الأساتذة الثلاثة عند عودتهم إلى الجزائر أنهم فوجئوا، «بعد 11 يوماً من الزيارة»، بقوّة من الأمن المصري، «مكوّنة من ستة أفراد بأزياء مدنية، حاملين أسلحة رشّاشة» تقتحم غرفتهم في الفندق وتفتشهم وتقتادهم إلى مقرّ أمن الدولة وأعينهم معصوبة. كما حكوا كيف جرى احتجازهم هناك لمدّة أربعين ساعة، في ظروف غير إنسانية: «البرد الشديد، والنوم على الأرض، والأكل مقيَّدي الأيدي ومعصوبي العيون، والدخول إلى المرحاض حفاة»، فضلاً عن التعذيب الذي تعرّضوا له، من تجريد من الملابس وضرب وإهانات. كلّ هذا «دون أن يعرفوا الأسباب»، إذ كان «الاتجاه العام للتحقيق عن شبهة الإرهاب والاتصال بأشخاص مشبوهين في مصر ولندن».
أحدثت هذه القضية زوبعة في الجزائر، إذ ندّدت الجرائد الرئيسية بما جرى للأساتذة الثلاثة لمدّة أيام عدّة، واتّخذت نقابة التعليم العالي موقف تضامن واضحاً معهم، وقرّرت «تنظيم احتجاج أمام مقرّ السفارة المصرية»، وطالبت الحكومةَ «بالإسراع في اتخاذ موقف صريح وصارم من هذه الممارسات». ولم تكن لهجة السلطات الجزائرية أقلّ حدّة، فقد أعرب سفير الجزائر لدى القاهرة عن رفض بلاده «أن يتمّ التصرّف مع أي رعية من الجزائر بهذه الطريقة، حتى لو اقترف جريمة كبرى، فما بالك إذا تعلّق الأمر بمجرّد شبهة أو شكوك»، وإن أكّد أنّه لا يريد «استباق الأحداث»، وينتظر «التحرّي في ما وقع بدقّة»، كما أضاف أن الجزائر لا تفرّط في حقّها «بشأن معاقبة من قاموا بهذا الفعل».
والآن، بعد مضي أكثر من شهر على هذه القضية، لم تُبد السلطات المصرية أيّة نيّة لمعاقبة الجلّادين، ولم نسمع «اعتذار» أي جهة رسمية ممّا حدث. وبعد أن نشرت الصحافة المصرية المستقلّة، على غرار مثيلتها الجزائرية، أخبار هذه القضية المروّعة، عادت وانشغلت بمتابعة «حوادث» تعذيب المواطنين المصريّين التي تتصدّر يوميّاً الجرائد، في بلد أصبح التعذيب فيه «سياسة منهجيّة للحكم»، حسب تقرير أعدّه مركز النديم. في الجزائر أيضاً اختفت القضية فجأة من أولويات الصحافة وخطابات المسؤولين، ولم يعد أحد يتحدّث عن حادثة بدت كأنّها ستحدث أزمة دبلوماسية بين البلدين، بعد أن استنكرت السفارة الجزائرية في القاهرة عدم إبلاغها باحتجاز رعاياها، عكس ما يحدث عامة في مثل هذه الحالات، إذ إنّه «لم يسبق أن وقعت حادثة في البلد الشقيق مصر تخصّ رعايا جزائريين، إلا وأخبرت سلطاته سفارتنا»، كما أكّد السفير.
نُسيت الحادثة المروّعة إذًا، دون أن تستجيب السلطات المصرية لمطالب السلطات الجزائرية. لا نعلم إذا ما وُجد حلّ «لأزمة الأساتذة الثلاثة»؛ ربما على طاولة اجتماع وزراء الداخلية العرب، الذي انعقد في نهاية شهر كانون الثاني في تونس، لتنسيق الإجراءات الأمنية وتوحيد وسائل القمع وتبادل الخبرات في ما يخصّ أحدث ممارسات التعذيب. وكما نعلم، فهذا هو الاجتماع الذي اتّفق فيه على «تجريم التحريض على الجرائم الإرهابية، أو الإشادة بها، أو نشر محرّرات أو مطبوعات أو تسجيلات أو طبعها وإعدادها مهما كان نوعها، بهدف تشجيع ارتكاب تلك الجرائم»، ما يوسّع دائرة المشتبه فيهم في القضايا المرتبطة بالإرهاب، ويتّفق والتعديلات القانونية الجارية في العديد من البلدان العربية. في مصر قد يُستبدل قانون الطوارئ بـ«قانون لمكافحة الإرهاب»، يسهّل على السلطات توقفيف المشتبه فيهم وتعذيبهم كما عُذِّب الأساتذة الجزائريّون بحجّة التهديدات المفترضة التي قد يمثلونها.
وربّما كان لإخماد هذه القضية علاقة بكون مصر المستثمر العربي الأوّل في الجزائر خارج قطاع النفط والغاز (3،46 مليارات دولار منذ 2001)، فمن «غير اللائق» إشعال أزمة دبلوماسية بين البلدين، في وقت أعلن فيه عن زيادة مرتقبة لهذه الاستثمارات واتجاهها في مجالات جديدة، منها القطاع المالي والتأمينات. ولا يصحّ تعكير صفو العلاقات الثنائية بعدما قرّرت شركة «حديد عز» المملوكة لأحمد عز، عضو مجلس الشعب وعضو لجنة السياسات في الحزب الوطني الحاكم، الرجل الأقرب لجمال مبارك والمسؤول الأوّل عن زيادة أسعار الحديد في السوق المصرية بسبب احتكاره لها، أن تدخل السوق الجزائرية باستثمار قيمته 750 مليون دولار، وخطّطت شركة «أسيك» القابضة المصرية للإسمنت لإنشاء مصنع جديد لها في منطقة الجلفة بقيمة 550 مليون دولار، واتُّفق على إقامة مشروع مشترك لإنتاج الأسمدة بين أوراسكوم وسونطراك الجزائرية بقيمة 2،1 مليار دولار. لا داعي لتعكير صفو الاجتماعات الثنائية في وقت يستعد فيه رئيس الوزراء المصري أحمد نظيف لترؤّس وفد يزور الجزائر في الثاني من آذار، لـ«بحث سبل دعم العلاقات الثنائية في مختلف المجالات».
من سوء حظّ الأساتذة الجزائريّين أنهم عادوا إلى بلادهم يوم الإعلان عن تأسيس أوّل شركة استثمارية مشتركة بين الجزائر ومصر، يوم 16 كانون الثاني، برأسمال قدره مليون دولار. لعلّ البعض يرى أنّه لا بدّ، من أجل إنجاح كلّ هذه المشاريع التعاونية بين «البلدين الشقيقين»، أو بمعنى أدقّ، من أجل تحقيق طموح نجيب ساويرس وأحمد عز التوسّعي، من التعتيم على قضايا إنسانية تافهة، لا تشكّل إلا «خسائر جانبيّة» في حرب الأنظمة العربية على الإرهاب: أيُعقل أن يُسمَح لـ«حادثة عارضة» كهذه، تشبه مئات الآلاف من «الحوادث العارضة» التي وقع ضحيتها مواطنون اشتُبه في كونهم إرهابيّين، بأن تُفسد مشاريع استثمارية تُقدّر بمليارات الدولارات؟
* صحافيّة مصريّة
تعليقات: