دراســة علميــة فرنســية تثبــت النصــوص التـاريخيــة!
تتحدث كتب التاريخ عن أن مدينة صور كانت مقسمة خلال العهد الفينيقي إلى قسمين: بري على الساحل القاري للبحر المتوسط، وبحري على شكل جزيرة تقابل هذا الساحل. وتتحدث كتب التاريخ أيضا عن أن الإسكندر الأكبر حاصر صور البحرية عام 332 قبل الميلاد لمدة سبعة أشهر قبل أن يتمكن من دخولها بعد أن نجح في وصل الجزيرة بالبر ببناء جسر اصطناعي بينهما مستخدما حجارة بيوت المدينة البرية التي دمرها.
لكن كيف تمكن الإسكندر من القيام بذلك؟ هذا الأمر حيّر علماء الآثار والمؤرخين من دون نتيجة حاسمة، وهو ما تكشفه دراسة نشرتها أمس مجلة
Proceedings of the National Academy of Sciences (PNAS) العلمية الأميركية، وقام بها الباحثان الفرنسيان نيك مارينير وكريستوف مورانج من المركز القومي للبحوث العلمية الفرنسي (CNRS) والمركز الأوروبي للأبحاث والتعليم حول علوم الأرض والبيئة في جامعة «إكس ـ مارسيليا».
وأظهرت الدراسة وجود لسان رملي طبيعي تحت سطح الماء بعمق متر إلى مترين كان يصل بين المدينتين فاستغله مهندسو الإسكندر كأساس لبناء الجسر.
وقام مارينير وفريقه بتحليل الترسبات الساحلية لمدينة صور للفترة الممتدة خلال العشرة آلاف سنة الماضية. وتبين أنه قبل 6 آلاف سنة إلى 8 آلاف سنة، نشأت بيئة بحرية ضحلة بين جزيرة صور التي كانت تمتد على طول ستة كيلومترات، وبين الأرض القارية المجاورة. وقبل 6 آلاف سنة من الآن، ومع تباطؤ ارتفاع مستوى سطح البحر بعد الحقبة الجليدية وارتفاع الإمدادات بالرواسب وانخفاض طاقة الأمواج بسبب الحاجز الطبيعي الذي تشكله الجزيرة، تقلص طول الجزيرة إلى 4 كيلومترات ونما لسان رملي طبيعي تحت الماء ربطها بالساحل. وتبين للباحثين أن مهندسي الإسكندر استغلوا هذا اللسان الرملي واستخدموه كأساس لبناء جسر مصطنع بطول كيلومتر واحد عبروا عليه باتجاه الجزيرة فتمكنوا حينها من خرق دفاعاتها.
ويقول الباحث الفرنسي الدكتور نيك مارينير لـ«السفير» إنه الاستنتاج الرئيسي الذي توصلت إليه الدراسة، فبناء جسر في البحر كان يشكل تحديا حقيقيا في ذلك الوقت. وعلى عكس ما هو متاح اليوم للمهندسين من المواد تساعدهم على القيام بهذا العمل كالحديد الصلب والأشكال المختلفة من الخرسانات لم تكن هذه الأدوات متاحة في العصر الحديدي، وكان بناء الأساسات يتم باستخدام الصخور والحجارة والأخشاب وهو ما توفر بكثرة في المنطقة الواقعة خلف سواحل صور. إضافة إلى ذلك واجه بناء هذا الجسر صعوبات بسبب البيئة البحرية والهجمات المنتظمة التي كان يقوم بها الصوريون عليه من طريق البحر لإعاقة تقدم العمل.
كما أدى جسر الإسكندر، بحسب ما يقول البروفيسور كريستوف مورانج في حديثه لـ«السفير» الى «تسارع عملية الترسيب وتغيير شكل ساحل صور ومهد لظهور حاجز بحري كما في مدينة الإسكندرية ونشوء خليجين منفصلين».
قبل هذه الدراسة لم يكن الباحثون يعرفون إلا القليل عن هذا الموضوع، وقد وضع عدد من الباحثين نظريات حول كيفية نمو اللسان البحري لكن من دون أي معطيات لدعم هذه النظريات.
وقد أثبتت هذه الدراسة، باستخدام تقنيات علمية، ما أشارت إليه النصوص القديمة بأن صور كانت جزيرة في الماضي. وبالنظر إلى الشكل الحالي للمدينة، يقول مارينير ساعدت الدراسة على تحديد التركيبة الجيولوجية للأرض التي تقوم عليها المدينة الحالية، «فغالبية المدينة الحديثة تم بناؤها على اللسان الرملي المؤلف من طبقات الرمال البحرية المتراصة والمترسبة خلال الثمانية آلاف سنة الماضية». ويضيف مورانج «يعني ذلك أن غالبية المدينة تم بناؤها على الرمال أو المياه وهي أساسات ضعيفة لأن البناء اصطناعي».
وكان العمل بالدراسة قد بدأ منذ عام 2002 كجزء من برنامج «للأونيسكو» يترأسه مورانج. وحصل الباحثون على مساعدة من «الجمعية الدولية للحفاظ على صور» و«صندوق ليفيرهولم» و«المركز القومي للبحوث العلمية الفرنسي» وبرنامج «سيدر» وبلدية صور. ويؤكد مورانج على الدور الإيجابي الذي أداه برنامج «سيدر» اللبناني الفرنسي للأبحاث ومديرية الآثار في تنفيذ هذه الدراسة.
ويقول مارينير إنه بالرغم من المجد البحري السابق لصور فإن المعرفة قليلة حول تنظيم المدينة والتطور الذي طرأ على بيئتها الساحلية منذ العصور القديمة، وهو أمر مهم من أجل فهم توزيع آثارها وتطورها. من هنا فإن هذه الدراسة من شأنها أن تساعد في تحديد أماكن التنقيبات الأثرية المكلفة أساسا. واعتبر مارينير أن لدى لبنان إرثاً تاريخياً وأثرياً رائعاً ينبغي الحفاظ عليه وحمايته للأجيال المقبلة. لكن مورانج حذر من أن إرث لبنان الموجود تحت الماء في خطر بسبب تدمير الآثار الساحلية لمدينة صور، وللبنان بشكل عام، ودعا إلى تشديد المراقبة في موضوع السرقات والبناء العشوائي من دون ضوابط.
تعليقات: