لم تعد الذكرى مناسبة لحفز المناضلين على التحرير، وها هي «النكبة» تتجدّد على أرض فلسطين.. وهذه المرة على أيدي «سلطتها».
فها هو الخطأ السياسي الذي تندفع إليه «الفصائل الفلسطينية» مساقة بحمَّى «السلطة» يتسبّب، مرة أخرى، في إغراق فلسطين ـ وطناً وقضية ـ بدماء أبنائها، وقد كانوا نذورها للتحرير.
ها هي «السلطة» التي ليس لها من «السلطة» إلا شكلياتها، برغم أنها كلفت شعب فلسطين تضحيات ولا أغلى، من بينها التخلي عن الإطار الوطني السياسي الجامع، «منظمة التحرير»، فضلاً عن آلاف آلاف الشهداء، تصيب «المناضلين القدامى» بالحَوَل السياسي، وتنحرف بهم عن أهدافهم الأصلية إلى صراع عبثي داخل خيمة الاحتلال العسكري الإسرائيلي.
وعلى امتداد دهر النضال الوطني الفلسطيني كانت قداسة «القضية» تفرض على القوى السياسية الانضباط خلف موجبات الوحدة الوطنية، خصوصاً وقد أدرك الجميع أنها ضمانتهم التي لا بديل منها لعدم الضياع في غياهب غابة المناورات والمزايدات والمناقصات الداخلية، المعززة بمحاولات الاستدراج العربية والدولية لبيع «القضية» في سوق النخاسة المسمى تجاوزاً «السلطة الوطنية»..
كيف تكون وطنية «سلطة» تقوم على حساب الوطن؟!
.. ولأن الانحراف قد تجذّر واستولد أجيالاً ممّن لا يترددون في الهرب من ميدان مواجهة «العدو» طلباً للتحرير إلى أفياء المناصب وشكلياتها المغرية، طلباً للسلطة، فقد بات الصدام بين «الفصائل» حتمياً لأن الصراع مع العدو يستولد ثواراً مؤمنين بقضيتهم أما العراك على السلطة، ولو شكلية، فإنه يستهلك جهد الجيل المفجوع بعجز قيادته حتى عن توفير الرواتب التي تكفل له إبعاد شبح الجوع عن أطفاله، فضلاً عن سقوطها دون الحد الأدنى من أهدافه الوطنية؟
لقد اغتيلت منظمة التحرير، أو أنها قدمت فدية لسلطة لا سلطة لها على أجزاء مقطّعة من أرض فلسطين.
ثم اغتيل «القائد المؤسّس» والذي كانت «السلطة» قد أسرته بقيود من الاتفاقات والتفاهمات مع العدو الإسرائيلي، الذي صار الآن ـ وبعد الدخول ـ «حاكمه الفعلي».
ومع غياب القائد الذي كان، ولفترة طويلة، قادراً على احتواء الخلافات (فكرية وسياسية وتنظيمية)، ومؤهلاً لابتداع تسوية ترجئ الصراع الداخلي في انتظار تنفيذ الاتفاقات التي عُقدت ذات ليل في أوسلو، تقدمت «السلطة» على القضية، وتحوّلت الفصائل، التي كانت ترفع راية التحرير، إلى أحزاب متنافسة على «الحكم» في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
... ولقد كان منطقياً أن تدفع «فتح» ضريبة عجز «سلطتها» فتخسر في الانتخابات التشريعية أمام «حماس»، ثم تدخل في نزاع معها على الحكومة... وهو نزاع سرعان ما أنذر بحرب أهلية، بل أنه قد فتح أبوابها، بالفعل على مصراعيها.
كذلك كان منطقياً أن يُترك للسعودية، بعد فشل مصر المدوّي، أن تحاول جمع المقتتلين على السلطة، وأن تضغط على الطرفين لحملهما على اتفاق، كان واضحاً أنه تمّ بالاضطرار، وهرب كل من الطرفين من تهمة المسؤولية عن دفع شعبه المجوّع إلى الاقتتال، في ظل الحراب الإسرائيلية.
لكن ذلك الاتفاق كان بلا أسنان من ذهب، فلا هو أتى بالخبز، للشعب المجوّع، ولا هو كان حصيلة تفاهم سياسي جدي على طبيعة المرحلة وبرنامجها العملي، في ظل الحصار الإسرائيلي، والتخلي العربي والإهمال الدولي..
فلما انعقدت القمة العربية في الرياض، كان أعظم ما توصلت إليه في سياق جهدها الفلسطيني، تجديد المبادرة العربية، السعودية المنشأ، والسعي إلى «إقناع» الحكومة الإسرائيلية التي كانت خارجة للتو من حربها الفاشلة على لبنان، بقبول «العرب» وسيطاً نزيهاً (!!) بينها وبين الفلسطينيين.
... وها نحن نشهد تفجّر الصراع مجدداً، مما ينذر بتفجّر «الحكومة» من داخلها.
ولن يتبقّى من «السلطة»، إذا وقع هذا المحظور، ما يمنع عن الشعب الفلسطيني المحاصَر في معازله، المجوّع والمهان في كرامته، خطر الاقتتال الداخلي، خصوصاً وأن السلاح الذي كان هدفه «التحرير»، ذات يوم، هو وحده المتوفر بين أيدي طوابير الفتية الذين لم يتقنوا في حياتهم مهنة، والذين أقفل الحصار مدارسهم وجامعاتهم، وحتى المستشفيات، ومنع عنهم مصادر الرزق... والأخطر أنه وأد آمالهم بالتحرير والعزة والكرامة في ظل السلطة الوطنية..
... ثم أن الصراع على السلطة قد أهدر كرامة قضيتهم، فخرجوا على تنظيماتهم المتهالكة، والتي تملك من المال ما يكفي للاقتتال وليس لبناء نواة للوطن العتيد..
صار التنظيم أهم من الوطن ومن القضية: أليس هو مصدر الرزق؟
... ولا مجير، ولا معين، ولا من هو مستعد لأن يتدخل وسيطاً، أو يملك من النفوذ، المعنوي والعملي، مَن يوقف المذبحة.
الأخطر: أن الوعد بالجنة قد تقدم على الوعد بالوطن.
ومن أسف أن أبواب الجحيم هي التي تنفتح الآن أمام هذا الشعب الذي كرّم أمته بنضاله، وليست أبواب الجنة.
ولم يتبق من مصدر للأمل إلا أن يتمكّن الشعب الفلسطيني من إلزام قياداته بوقف هذه المذبحة، وإجبارها على تسوية جديدة حول السلطة المتهالكة، والعودة إلى المواجهة الأصلية مع العدو الذي لا عدو غيره: الاحتلال الإسرائيلي.
.. ومن أسف فليست هذه هي «السلطة» الوحيدة التي تقوم على حساب «الوطن»!
تعليقات: