«نهر البارد» الآن
فـي «البـارد».. أنـاس يرممـون عودتهـم وأعمارهـم وحياتهـم المسحوقـة..
نهر البارد:
«ترخيص»
يرخص العميد الركن قائد منطقة الشمال للسيد وليد شعبان بالدخول مع عائلته إلى المخيم الجديد لاستلام منزله والسكن فيه. (القطاع E)».
بالكاد تتسع الورقة المستطيلة لهذه العبارة المختصرة. ورقة رقيقة غلفها شعبان بالنايلون اللاصق كي لا تتلف. هي، ومنذ أكثر من خمسة اشهر، جواز مروره الوحيد إلى بيته في المخيم الجديد من «كامب» نهر البارد. عبارة واضحة وبسيطة، لا يُعوّل الواحد عليها، تختزل كل حياة وليد شعبان، فلا نعرف عن عائلته، أو عن البيت الذي استلمه وسكن فيه.
المخيم ما زال ممنوعاً عن الإعلام، ما خلا زيارة خجولة لقناتي «المستقبل» و«المؤسسة اللبنانية للإرسال» اللتين نقلتا خبر زيارة مدير الأونروا ريتشارد كوك لافتتاح مدرسة بنيت بغرف جاهزة. غير ذلك، لا يمكن الدخول إلا ببعض تحايل، فقد خف الطوق الأمني الذي يحيط به الجيش المخيم الجديد. أما القديم، فما زال الطوق حوله مشدداً. وللمرور إليه، هناك معبر واحد يقف عنده الجنود، وبالطبع، فإن الواحد بحاجة إلى ترخيص للوصول إلى ركام بيته عله ينتشل شيئاً من تحت الردم. البيت الذي سيجرف مع بقية القسم القديم لكي يرتفع محله مخيم من المفترض أن يُفرغ من بنائه في العام 2010 وسيكون «أحلى مما كان».
حين نصير في داخل المخيم الجديد، لا يعود تواجد الجيش اللبناني ملموساً، غير أن الحذر واجب، والكاميرا التي يلتقط بها الزميل مصطفى جمال الدين الصور، من الأفضل أن تظل متوارية تحت معطفه حين لا يصور، ومن الأفضل ايضاً التلفت قليلاً قبل التصوير.
المهمة الثانية الموازية أكثر سهولة. يكفي إلقاء التحية على رب البيت كي يمتد الساعد بكف مفتوحة: تفضل. في الداخل، يحكي الفلسطيني ويشير إلى جدران كانت هنا. إلى اثاث كان هنا. إلى حياة كانت هنا وغادرت، ولن تعود كما كانت..
وليد شعبان مثل أول، لن تختصر حياته هنا، بتصريح من سطر واحد.
[[[
يبدأ السقف المائل بالانحدار من أعلى الدرج ويصل طرفه الثاني إلى الأرض. تحت السقف تلة ركام يلعب عليها طفل في الثانية من عمره. في الركام قضبان حديدية كثيرة أخرجها القصف من الأعمدة. عند اسفل الدرج، أي مدخل البيت المفترض، تعالج امرأة محجبة الحطب المشتعل تحت قدر حديدي مليء بالماء. القدر المحترقة حوافه، عتيق، يناقض حداثة الخزان البلاستيكي الرمادي المركون عند أول درج البيت. في الخزان مياه شفه، لا تشبه بدروها المياه الآسنة في فسحة تبعد مترين عن الامرأة والطفل. لا شيء حديثاً هنا إلا خزان الأونروا، ولوحة ملونة كتب عليها بالانكليزية رقم البيت والقطاع ، علقت عند مطلع الدرج.
تحت الدرج، يرتفع عمود من بضعة حجارة باطون رصفت كي تسنده فلا يقع. الدرج متصدع. وفيه فراغات كثيرة سدت بالخشب. أنت، وابن السنتين، والأم، وقدر المياه حين تغلي، عليكم اجتياز هذ الدرجات المتصدعة كي تصلوا إلى ممر ضيق يذهب بكم إلى البيت. الممر نصفه من الأرض الباطون ونصفه الثاني الملاصق للسقف المنهار، من خشب. وبينه وبين السقف ترتفع دعائم خشبية أيضاً. يمكن اختصار هذا الوصف بكلمة «خطر جداً» على الأطفال، وخطر على البالغين. لكن يبدو أنه ما باليد حيلة.
للدخول إلى غرفة المعيشة، نمر في نصف مطبخ بينما سقط النصف الآخر مع السقف المائل نفسه. في نصف المطبخ فرن غاز متهالك، وبرّاد من دون باب ملآن بحاجيات مختلفة من طعام وغيره. والخشب يرتفع ليعزل المطبخ عن الخارج.
على أرض غرفة المعيشة الناجية من الحرب، يجلس وليد شعبان على الأرض ويحلق لحيته أمام المرآة الخارجية لخزانة الثياب. يستمع إلى صوت راديو صغير ويحيط به أولاده الخمسة. زوجته تتدبر أمور المنزل. تغلي الماء لتغسل.
البيت كان مؤلفاً من اربع غرف ومطبخ وحمام. بقي منها غرفتان وحمام ونصف مطبخ. السقف المائل كان لمتجري شعبان. واحد يستخدمه مشغل نجارة والآخر يبيع فيه أدوات صحية مستعملة. فوقهما، كان الرجل يعرض مفروشات مستعملة للبيع أيضاً. هذا كل رزقه. تجارة صغيرة تدر عليه نحو الف دولار في الشهر. ذهبت بها الحرب. وكان وعائلته من اول «الدفعات» العائدة الى البارد قبل خمسة اشهر. لا يستطيع رب العائلة الكبيرة أن يبقى نازحاً في بيت شقيقه في مخيم البداوي. ولن يجد الواحد منا راحته إلا في بيته، ولو كان البيت على هذه الحال. هكذا، كان عليه ان يمنع ما أمكن من الخطر عن اولاده بالخشب الرقيق. وبالخشب نفسه طارد الثغرات في السقف التي دلفت منها مياه الشتاء. هو يعرف أن المكان آيل للسقوط، غير أن أحداً لم يأت ليسأله كيف يعيش في مثل هذا البيت الذي لا يستطيع أن يحتمل تكلفة إزالة نصفه الذي صار ركاماً. المليونا ليرة، المبلغ الذي دفع للأسر الفلسطينية، صرف خلال أشهر النزوح. منظمة التحرير دفعت الف دولار ايضاً. هل تكفي لشهرين مثلاً؟
ولكن ماذا الآن؟ مما ادخره، استأجر شعبان دكانا صغيرا قريبا من البيت بمئة الف ليرة شهرياً يبيع فيه الأبواب المستعملة. يعيش والعائلة بأقل الممكن. من دون كهرباء منذ عودته، يجول الرجل بسيارته ليشحن بطاريتها ويضيء بها ليلا مصباح نيون. وعنده مصباح آخر يشحنه كل بضعة ايام في المنية. مؤخراً ابتاع الراديو الصغير ليعرف ما الذي يجري في العالم. على مثل هذه الظروف مجتمعة، تمضي يوميات عائلة في مخيم نهر البارد. لكنها أكثر من يوميات. إنها حياة أربعين الف فلسطيني لاجئ، نبشت، وقلبت رأساً على عقب.
«متل الحلم اللي صار، يقول شعبان، ثم يصحح بسرعة: «كابوس».
[[[
من على سطح مبنى، نرى البحر الأبيض المتوسط. نرى جبال لبنان المكللة بالثلوج. نرى تلة رمادية بشعة، من دون شكل محدد، هي ما تبقى من المخيم القديم، ونرى، كيفما التفتنا، المخيم الجديد ببيوته وقد مرت عليها الحرب، فتركت آثارها التي تتمايز في الحجم من أثر الطلقات إلى فجوات القذائف إلى الأرض المنبسطة وقد كان عليها مبنى. الى أعمدة كأطراف مبتورة لم تعد تحمل شيئاً.. ونرى ايضاً المستطيلات اللماعة البيضاء، مجموعة منها صارت مدرسة، وأخرى صارت بيوتاً جاهزة للسكن وانتقل اليها في اليومين الفائتين لاجئو مدرستي كوكب والناصري في البداوي. وهناك جدران ترتفع من جديد. أناس يرممون أعمارهم.
كل شوارع المخيم عادت ترابية تملأها الحجارة والركام والمياه. الطريق المسماة كورنيشاً، حيث كان سوق المخيم المشهور بأنه سوق المنطقة بكاملها، هي أيضاً ترابية عليها بضعة متاجر متفرقة عادت لتفتح ابوابها. وعلى طرفي الطريق دمار عشوائي هائل. الدمار يرافق المشهد كيفما مشى الواحد هنا. اما الناس فلم يخرجوا بعد من كل هذا الغبار والفوضى الذي خلفته الحرب.
هذا المخيم الذي تشي بقاياه بأنه كان مختلفا عن مخيمات بيروت، أكثر اتساعاً وفيه شجر مزروع ومساحات خضراء ولديه شاطئ، خسر في بضعة اشهر من الحرب ما راكمه في عشرات السنين. خسر كل شيء.
مشهده الكئيب من فوق، يصير اكثر كآبة حين الدخول في تفاصيل الناس التي تعرف أنها متروكة تماماً، وان ليس هناك من سيسندها. حين نصبت الخيم قبل ستين سنة في هذه الارض، كان اللاجئون يظنون أن محيطهم العربي سيعيدهم قريباً إلى بيوتهم. تلك كانت نكبة. بعد هذه الحرب، تعود النكبة ثانية لتصيب أولادهم واحفادهم. وهؤلاء استسلموا هذه المرة، والمصيبة تبدو أكبر من أن تقدر عليها منظمات انسانية او منظمات فلسطينية أو حتى الأونروا. ومن البديهيات عندهم ان الدولة اللبنانية لن تلتفت إليهم. لم تفعل طوال ستين سنة، ولن تفعل. هنا، قلع الشوك من يدك لن يكون الا بيدك الثانية.
أكثر من ذلك، هم يرون أن لبنان يعاملهم كمهزومين في حرب لم تكن حربهم أصلاً. على هذا، فالمهزوم يحتاج إلى وقت طويل قبل أن يسمح له بالعودة إلى بيته، ومن خلال ممر إلزامي وترخيص ووقوف كان في البداية يستمر لساعات امام الحاجز، ليترك في هذا الداخل المرعب بأقل ما يمكن من امكانات ليواجه ويتدبر أمره بنفسه في ظروف لا تطاق.
ما عدا النازحين من المخيم، فإن الوقت لم يشكل هاجساً لدى أي طرف. على مهل حدث كل شيء. الحرب ونهايتها والسماح بالعودة إلى «الجديد»، وبناء البيوت الجاهزة للباقين منذ تسعة أشهر في المدارس، على ان يتسلم نازحو مدرستين أخريين مساكنهم في آخر آذار، ثم أخيراً تسلم مساكن من يعيشون في «الكاراجات» في البداوي.
انتصر لبنان في الحرب على الارهاب. لم يكن مهماً، مثلاً، متى ينتهي فلسطينيو البارد من نزوحهم. لم يكن مهماً أن زياد ذا العامين، وشقيقه خالد ابن السنة الواحدة، كانا حتى البارحة يعيشان في ممر بين الصفوف في مدرسة الناصري. هذان ابنا محمود. خرج بهما في سيارة متهالكة حملت 22 شخصاً إلى «البداوي» في اليوم الثالث للحرب. لم يكن من صف فارغ ليلجأ اليه الشاب مع والدته وأشقائه. أمضوا الليلة الأولى في ملعب المدرسة. في اليوم الثاني رفع محمود غطاءين بين السقف والأرض في الممر فصارت الامتار الاربعة المربعة هذه بيته، واستمرت طوال تسعة اشهر. وأمام «البيت» رفع لوالدته ووالده وأشقائه ستة امتار مماثلة.
في ممر المدرسة ينتفي كل شيء. الخصوصية والأمان والبيئة الصحية لطفلين يقعان في المرض مرة بعد مرة ويحميهما الله. ينتفي كل شيء إلا بارقة أمل صغيرة بالعودة إلى البيت في المخيم. هذا مستحيل بالطبع. فالبيت الذي ذهب إليه محمود وزوجته بعد اشهر على توقف الحرب لم يستطع الاستدلال إلى موقعه. في البداية لم يعرف الرجل موقع الحي برمته. والزوجة عرفت الركام الذي كان بيتاً من بقايا سجادة للجيران.
حملت معها من بيتها حجراً صغيراً من جدار كان ملوناً في البيت. حجر كذكرى. عندما وصلت الى المدرسة في البداوي، اكتشفت أنها نسيته في سيارة الاجرة فانهارت باكية لأنه «حتى الحجر كان كثيراً» عليها.
مع بداية الحرب، توقف محمود عن العمل ككهربائي في شركة في بيروت. مع السماح بالعودة الى المخيم الجديد، بدأ يعمل كسائق على سيارته. يجلب من مخيم البداوي شباناً وشابات يتطوعون في «مؤسسة الاطفال والشباب الفلسطينيين» ليمضون نهارهم في تنشيط أطفال نهر البارد. يساعدونهم نفسياً ويعطونهم دروسا خصوصية ويؤمنون لهم مساحات لعب صغيرة في المبنى الجديد الذي اسـتأجرته المؤسسة بعدما دمر الأول. عشرون الف ليرة يوميا لمحمود، سبعة آلاف منها ثمناً للوقود، والباقي مصروف للعائلة الصغيرة. مع نشر هذا التحقيق يكون محمود قد انتقل إلى واحدة من الغرف الجاهزة الثلاثمئة التي انتهى العمل منها. يسميها الفلسطينيون «البراكسات»، وستؤوي مئتي عائلة ما زالوا لاجئين في مدرستين في البداوي. محمود عائد الى باراكس، ما هو الباراكس يا ترى؟
[[[
صفوف طويلة متقابلة من المستوعبات الحديدية البيضاء في طابقين. يفصل بين الصف والثاني ممر ضيق فوقه ممر ثان بين مستوعبات الطابق الثاني. ملاحظة محمود الأولى، خلال تجواله في هذه القرية الحديدية الصغيرة، هي أن النوافذ تقابل بعضها بعضا تماماً. ما لم ينتبه اليه الشاب هو أن أي عابر سبيل يمكنه أيضاً النظر إلى الداخل من خلال النافذة المفتوحة. الداخل هو ستة أمتار طولا وثلاثة عرضاً. العائلة المؤلفة من خمسة اشخاص واقل تقطن في غرفة كهذه. والعائلة من ستة افراد واكثر تقطن في غرفتين. في آخر الغرفة متر مربع واحد يعتبر حماماً له باب. بالقرب من باب الحمام مجلى من نصف متر تقريبا يعلوه مستطيل خشبي. هذا هو المطبخ.
المواصفات، على ما يقول مهندس المشروع محمد مصطفى واكد، أوروبية. المشروع بدأ يمتلئ بالناس. لننتظر الآتين ونزور المكان بعد اشهر من مجيء نحو 1500 شخص إليه لنعرف أي حياة مؤقتة ستمضي هنا بانتظار أن يبنى المخيم. حتى العام ,2010 سيقطن محمود في هذه الغرفة. كان لديه بضعة هموم صغيرة يريد أن يعرفها وسأل عنها. حين عاد إلى الممر في المدرسة في البداوي، قال لصديقة زوجته، الجارة في لجوء المدرسة، إنها ستكون جارتهما في الباراكس المقابل. كان هذا خبراً سعيداً. الخبر السعيد الآخر هو التالي: محمود سيحصل على غرفة بباب له مفتاح. هذه باتت أقصى الآمال. لكن، هل قلنا سابقاً إن كل شيء ينتفي في حياة هذا الفلسطيني اللاجئ؟ ينبغي علينا أن نصحح. ثمة ابتسامة قوية لا تغيب عن الوجه. للفلسطيني صلابة لا يفك رموزها إلا الفلسطيني مثله، وعزة نفس لا تنال منها حياة بين جدران من قماش. على هذا، ففي الغرفة يجلس على الاسفنج الرقيق أرضاً ضيوف كثر في بيت أهله مضيافون: صحافيان لبنانيان يلتقي بهما محمود للمرة الأولى. وطالبا دراسات عليا أميركيان من جامعة جورج تاون، يتحدثان العربية ويعملان على مشروع تخرجهما الذي يحكي عما يحدث للفلسطينيين، وزائرتان فلسطينيتان أخريان تعيشان في أميركا. يحتسي الجميع الشاي الساخن الحلو، وتهتم منال، شقيقة محمود، بالآتين للمرة الأولى، وربما الأخيرة. يعلو الصوت الجمع في نقاش مرح. ولا يعود المكان ممراً ولا يعود اهل البيت لاجئين مصابين في أعمارهم. نصير في بيت ترفع أعمدته أخلاق ناسه. وربة هذا البيت، أم محمود، تجلس امام مقلاة فوق النار، تقلي السمك الطازج للضيوف. ولحظة لا تغادر الابتسامة ثغرها. لا ريب أنه معدن ثمين ذاك الذي قدّ به الله مثل هذه السيدة وأولادها.
الشاي في البداوي، كان اثر النهار الطويل في مخيم نهر البارد، والذي لم ينته بعد.
[[[
كمن يلتقط خيطاً ويمشي معه، تمشي الحكايات في المخيم. السيدة التي تجلس في الشمس اللطيفة ليست على شرفة منزلها. هي تجلس في النصف المتبقي والمفتوح على الفضاء من المبنى الصغير الذي كان يؤويها وزوجها أحمد العلي وأولاده، المتزوج منهم والأعزب. بعد ثلاثين عاما من العمل «بالفاعل» عند رجل لبناني، سأل رب العمل الحاج أحمد عما يعطيه كتعويض. فقال الحاج: آخذ مئتي متر مربع من الأرض ابني فوقها بيتاً. وهكذا كان هذا البيت الذي رفع طابقا بعد طابق من اوائل التسعينات من اجل الأولاد. منذ اشهر يعيش الحاج وزوجته في مطبخ من البيت نجا وبالكاد يتسع للسرير وللفراش الممدود بقربه على الارض.
الحاج الذي لا يعرف اي آلية للتعويض عليه، ويجهل من تكون الجهات المسؤولة عن التعويض، أمضى وزوجته الشتاء في المطبخ. السبعيني لن يرتاح، على عادة من في سنه، بالاقامة في بيوت إحدى بناته أو أولاده، وجميعهم باتوا منتشرين، فمنهم من استأجر ومنهم من يقطن في مبانٍ صالحة استأجرتها الأونروا. العائلة التي كانت ملمومة على بعضها في بيتها الكبير تفرقت. وهو قرر ألا يستأجر خوفاً من أن يُهمل ويضيع حقه وجنى عمره وأولاده. كيف مرت ثلاثة اشهر من الشتاء؟ كيف سيمر الصيف؟ هذه أسئلة فيها الكثير من الترف. السؤال الوحيد المسموح هو ربما عن الجهة التي ينتظر الحاج أن تساعده في إعادة بناء بيته. «ناطرين ربنا» يقول.
هل من المفيد أن نقول إنه كان سيسكن في مستودع أسفل البيت، لكن المياه أغرقت المستودع؟
[[[
حاج آخر يلقانا في الطريق، فنمشي معه إلى بيته. «قصر» كان يسمي الزائر بيت الحاج محمد الرازوق. الحمد لله. انظر الآن. النيران التهمت جدران الغرف الكثيرة الواسعة كما التهمت كل أثاثه. من اين دخلت القذيفة؟ لم تدخل. الحريق كان مفتعلا على ما يقول الرازوق. على الجدران خطوط تتجه نزولاً يقول اهل المخيم انها آثار زيوت حارقة رشت ثم اشعلت فيها النيران.
في المخيم بيوت كثيرة احترقت عن بكرة ابيها من الداخل وبقيت سالمة من الخارج. كيف تقع مثل هذه المعجزات؟ الحديث عن الحرائق المفتعلة وعن النهب الذي جرى للمخيم بعد نهاية الحرب من المحرمات. غير ان منظمة العفو الدولية خرجت بتقرير بتاريخ الحادي والثلاثين من تشرين الأول من العام الفائت جاء في بعضه: «وفقا لمجموعة متنوعة من المصادر، فإنه منذ بسط الجيش اللبناني سيطرته على المخيم في مطلع ايلول (من العام الفائت) حدثت عمليات نهب وإحراق وتخريب واسعة النطاق للمنازل والممتلكات الفلسطينية التي اخلاها سكانها في نهر البارد، ما زاد من الدمار الذي لحق بالمخيم خلال القتال. وبحسب ما ورد، تعرضت بيوت كثيرة لنهب المحتويات الاكثر قيمة فيها، مثل أجهزة التلفزيون والثلاجات والغسالات والمجوهرات والنقود، كذلك نهبت بعض الحوانيت وأخذ المولد الكهربائي الموجود في احد المراكز الاجتماعية. كما يبدو انه تم اشعال النار عمدا بعدد من المنازل منذ انتهاء القتال، وتدل على ذلك بقايا اطارات السيارات واسطوانات الغاز التي استخدمت لاشعال الحرائق وبقع السائل القابل للاشتعال الذي تم رشه على الجدران».
هناك مقالات أخرى لصحافيين وناشطين غربيين وشهادات وثقتها منظمات إنسانية وصور وغيرها، تشرح كلها عن الحرائق المتعمدة وعن النهب المنظم وعن الاساءات التي كتبت على الجدران. «تجازوات» لا تبررها الضرورات، غير أن جهة رسمية لبنانية واحدة لم تعلن عن فتح تحقيق بهذه التجاوزات التي وقعت في البارد بعد الحرب وقبل عودة الأهالي إليه.
لا يقف الحاج الرازوق طويلا عند الحرق المتعمد. هو أصلاً يبدو بحاجة إلى ان يخبر عن مصابه، كي يرتاح فحسب. أن يتنقل بين الغرف التي قشرت طبقة الباطون عن جدرانها، ليخبر عن غرفة نوم ابنه هنا، وعن الصالون هناك، وعن الثياب في الخزانة. لم يسلم شيء من هذا. ومع ذلك، يدور من غرفة الى غرفة تدفعه حماسة شديدة فيكاد يتعثر ويلوح بساعديه مشيرا في كل الاتجاهات.. ويردد في كل مرة: الحمد لله. الحمد لله.
كذلك تقول زوجته، الحاجة أم حسين. الحمد لله كل مرة. كانوا يقولون لنا بيتكم قصر. لو أنك رأيت البلاط. لو لمست طبقات الطلاء. الجدران كانت كالمرايا. حين رأت البيت اصيبت بالمرض، هي التي تأخذ دواء ضد الجلطة. قال لها الطبيب: ما الذي سيأتيك من الحزن. أعطاها مثلا عن امرأة غنية جداً تعطى طعامها بالأنبوب. الحمد لله. تعيش وزوجها في غرفة من الطابق الثاني الذي كان في طور الإنجاز حتى «رحمنا الله برحمته»، تقصد الحرب. غرفة واسعة تشربت جدرانها مياه الشتاء. تضع شمعة وكبريتاً تحت مخدتها، إذا ما ارادت القيام ليلا. يؤذن المغرب فنصلي ونأكل لقمة ونحط راسنا بالفراش. هذه صارت حياتنا.. آه بس لو بتشوف البيت. بنتي الكبيرة.. قضت.. خاتم ما فيه بايدها.. تشتغل وتحط بهالبيت كل ما جمعت شوي. علواه راح العفش وضل البيت. مين ما يجي يقول مين عامله. يلمع لمع يبقى.. الحمد لله. الحمد لله».. هذه العبارات قطّعها البكاء القصير الذي افلت منها غصباً.
[[[
لكل منهم حكايته. أم جهاد وزوجها وابناؤها العشرة يعيشون الآن في خيمة يتمدد على فراش فيها رضيع ولد في الحرب. خسرت العائلة بيتها وكل ثروتها الصغيرة: اربع أبقار واربعة مواليد جديدة لها. تحت الرصاص، في اليوم الثالث من الحرب، وقبل النزوح زحفت السيدة على ركبتيها من الملجأ المجاور، لتضع الطعام للحيوانات، وكانت واحدة منها مصابة تنزف. قالت سلمت امركم لله وعادت زحفا الى الملجأ. زوجها لم يصدق انها عادت حية. الآن هي نادمة، لأن الله لم يلهمها أن تفك الحبال عن البقرات، لعلها كانت نجت.
سندس رضيعة أخـــرى. آخر عنقود عائلة نزحت عن المخيم القديم وعـــادت لتســـتأجر مستودعا معتماً في الجــديد بمئــتي دولار شهرياً.
ولدت سندس في الحرب أيضاً، وأمها سمتها هاجر، لأنها ولدت خلال النزوح. غير ان ابنتها الكبيرة رفضت هذا الاسم لشقيقتها، كي لا «تتعقد» حين تكبر. فسمتها سندس.
هذه عائلة أخرى ما عادت تملك شيئاً، وباتت تعيش بأقل من المتخيل. هي بعض من نماذج. لكل عائد قصته، والروايات لا تنتهي.
جدة سندس مسنة عبرت الثمانين عاماً. تأخذ حيزاً لا يذكر من الأرض التي تفترشها. تحكي عن خروجها من فلسطين الى عين ابل وبنت جبيل والقرعون. «زقونا»، تقول عن ذاك الترحال العتيق. «مين تغلّب قد الفلسطيني؟ آه؟ ولا حدا ولا حدا ولا حدا. وبعدنا بالغلب».
هي ايضاً تخبر عن «بركسات» لجأت اليها مع اهلها. محمود يحكي معها وهي تضع يده بين كفيها وتمسح عليها. تقول له: «المهم انتو تظلوا طيبين. كله فداكم يا إمي».
على بعد مترين منها، تجلس سندس الرضيعة في حضن أمها. تنظر إلى جدتها بعينين خضراوين واسعتين.
رجوع
تعليقات: