قطيع في مارون الراس

شبكة اجتماعية كاملة تنحسر مع عنّات «المنجيرة»..

بنت جبيل:

على أطلال الزمان الغابر وهجوم الحضارة المكسوة بالاسمنت والباطون المسلّح، صار مشهد الرعاة نادراً في يوميات بنت جبيل وبعض القرى المحيطة.

فقد جاء الربيع، ولبست الأرض ثيابها الخضراء، وما زالت خلة عيسى في بنت جبيل تستقبل أصداء صراخ الراعي وأجراس قطيعه المتنقل بين ما بقي من مروج ومراع سلمت من الغزو العمراني. كما ما زالت خلاّت بنت جبيل، وبعضها مأهول، تتحول إلى ساحة مسيرات لقوافل الماعز والغنم.

هؤلاء الرعاة المتنقلون بين خلّة عيسى ومارون الراس، وبين خلّة المشتى وعيناثا، اعتادوا ذلك منذ القدم، يقصدون فسحات خضراء بحثاً عن العشب الطري لقطعانهم بعدما اشتعلت أسعار العلف إلى حدود لا تطاق.

ورغم قلة عددهم، وانحسار حجم مواشيهم، وتعدد أزماتهم بسبب التمدد العمراني على حساب المراعي والأراضي البور المفتوحة أمامهم، وصعوبة المهنة، وانتشار القنابل العنقودية والألغام على نطاق واسع في الأحراج والسهل من مخلّفات الاعتداءات الإسرائيلية، فإن الرعاة التقليديين يصرون على المضي في حياتهم. وذلك إما بسبب الاعتياد أو لعدم توفر البدائل. فيرى يوسف قوصان أن هذه المهنة، على صعوبتها، ما زالت تؤمن مردوداً مقبولاً من بدلات بيع الحليب والجلود واللحوم، بالمقارنة مع مهن أخرى.

يحكي تاريخ البلدة أن عائلات بكاملها امتهنت طريقة العيش هذه، وكان السكان يملكون آلافاً من رؤوس الغنم والماعز التي أضفت مشاهد جميلة، في أيام الرعية على أودية وجبال بنت جبيل. بل كان أسلوب الحياة هذا يخلق بيئة اجتماعية وثقافية ذات خصوصية، بالإضافة إلى حالة التواصل بين سكان القرى والوافدين أو المارين موسمياً، وحالة الانتظار وتحيّن الفرص لتبادل السلع والمواد الغذائية في ما بينهم. وكان أهالي القرى ينتظرون مرور الرعاة لتبادل البضائع معهم، منتجات زراعية مقابل المواشي.

تغيّرت الحال اليوم. المواشي تباع في «السيرة»، أو تستورد من الخارج. والتواصل ضعيف بين القاطنين في ضواحي القرى والمناطق المأهولة وبين الرعاة ومنتجاتهم، في حين أن أعداداً قليلة ومتناقصة هي التي ما زالت تمتهن هذا العمل لأسباب كثيرة ليس أقلها القنابل العنقودية وعدم وجود حماية رسمية من مخاطرها، خصوصاً أن معظم أصحاب القطعان فقدوها إبان عدوان تموز ,2006 من دون أن يجري التعويض عليهم حتى الآن باستثناء بعض «الهدايا» الرمزية التي قدمتها أطراف محلية وجمعيات أجنبية.

تبقى صخور هذه المناطق وأشجارها تردد صدى أصوات مضت، وقلوب تحن إلى تلك الأيام المباركة... على أمل أن ترى أرضنا الطيبة رعاة أكثر، لتعود عنّات المنجيرة فوق صخور القلاع والدبش وخلة عيسى، ومعها العتابا من رجل افتقدنا أبياته مذ كان سائحاً متنقلاً بين التلال والوديان.