في مجتمعنا فئةٌ من النّساء، لسنَ متزوّجاتٍ يَنعمْن بدفء الحياة الأسريّة واستقرارها، ولا مطلّقاتٍ قادراتٍ على الإنخراط في علاقةٍ جديّةٍ من جديد... يُتَحَدَّثُ عن حالهنّ في السرّ، شفقةً على ما يمرُرْنَ به من مرضٍ عُضالٍ لا شفاء منه إلّا بعد طول صبرٍ ومشقّةٍ وانتظار...
لطالما سمِعَتْ عن هذه الفئة مذ كانتْ فتاةً في مقتبل العمر تُنصتُ إلى أحاديث الكبارِ وقصصِهم عن أزواجٍ رفضْنَ أن "يُطلّقْنَ" أزواجهنّ سنين طويلة بعد "الإنفصال"، مع العلم بأنّه خلال هذه المدّة لا يعطي الرّجل المرأة -في أغلب الحالات- أيّ حقٍّ من حقوقها الشّرعيّة... وكمْ من قصصٍ نسمعها فنظنّ بأنّها وهميّةً لشدّة قسوتها، ونحسب أنّنا بعيدون عنها لنستفيق فجأةً على واقعٍ أصبحنا فيه أحد أبطالها أو بالأحرى "ضحاياها"...
إذا سألها أحدهم: "هل أنتِ مرتبطة؟"... بمَ تجيب؟! سؤالٌ مع شدّة بساطته يجعلها محتارةً في الإجابة عنه... فهي "لا معلّقة ولا مطلّقة!"... وضعٌ عائليٌّ هجّينٌ وُلدَ من سوء استعمال سلطةٍ أُعطيَتْ للزّوج من جهة، ومن صعوبة الإستحصال على قرارٍ شرعيّ حاسم في مثل هذه الحالات من جهةٍ أخرى.
هذا هو وضعها العائلي الجديد... لقد أضحَتْ أشبهَ بكبكوب صوفٍ معلّقٍ بقطعة قماشٍ (الزّواج الفاشل) توقّف صانعُها عن حياكتها لأنّه أيقن بأنّها لن تصلح لشيء... والقرار بيد المقصّ؛ قطعُ الخيط الّذي يربط كبكوب الصّوف بقطعة القماش أو تركُهُ على حاله... فالمقصّ قد امتلكها منذ أن قالت أمام رجل الدّين في أحد الأيّام: "أنتَ وكيلي"... وبالتّالي لا يحقّ لأحدٍ سواه أن يقرّر مصيرها... بيدهِ إطلاق سراحها وبيده إبقاؤها معلّقة إلى أن يشاء عكسَ ذلك... وقد قرّر تعسّفاً أن يُمعِنَ بتقطيع خيوطها... إلّا ذلك الخيط الّذي يحرّرها...
يلومها القليل من النّاس (على الأغلب نساء مطلّقات ذُقْنَ اللّوعةَ قبلَها) لأنّها لم تحمِ نفسها بوضع وكالة الطّلاق (العصمة) بيدها... وهنا حكايةٌ أخرى... فلا زلنا نعيش في مجتمعٍ لا يتقبّل فيه أغلب الرّجال هذه الفكرة... ولا أدري من الّذي ربط عنفوان الزّوج و"رجوليّته" بامتلاكه للعصمة... مفاهيم خاطئة تشرّبها المجتمع للعظم، بل للنّخاع، ولا زلنا نتوارثها دون التّدقيق فيها لكشف حقيقتها... وللأسف، تقع المرأة المقبلة على الزّواج فريسةً لهذه الأفكار الغير سليمة والمهترئة، فتتماشى معها -لا اقتناعاً بها- ولكن اعتماداً على مقولة "ما نحنا عم نشتري رجّال ثقة"... ولكن عندما يقرّر صاحب "الثّقة" أن يتحكّم بقدرها وأن يتمادى في أذيّتها، يقف هذا "المجتمع" متفرّجاً عليها، مواسياً ببعض كلمات التّصبّر والسّلوان، عاجزاً عن مناهضة الظّلم الّذي يطالها...
إنّ الرّجل يستطيع متى ما أراد أن يطلّق زوجته -لأيّ سببٍ كان- ويتوجّب عليه أن يدفع لها المهر المتّفق عليه في عقد الزّواج... كما أنّ امتلاك المرأة للعصمة يمكّنها فقط من الحصول على الطّلاق في حال أرادتْ ذلك -لا أكثر... فما الّذي ينتقص من "رجوليّة" الزّوج في حال كانت المرأة تمتلك العصمة بالوكالة عنه؟ هي فقط تضمن إمكانيّة تحرّرها من الزّواج في حال أرادتْ ذلك لا أكثر... وهل من "الرّجوليّة" أن يُجبر الزّوج زوجته على العيش معه في حال لم تعد تريد ذلك؟ أم هل من الإنسانيّة أن ينتقم منها -لمجرّد أنّها طلبتْ الطّلاق- بأن يتركها "لا معلّقة ولا مطلّقة"؟! بالطّبع كلّنا يعرف الإجابة...
يقول البعض إنّ من الأفضل للمرأة ألّا تمتلك "العصمة" لأنّها بطبعها عاطفيّة، ومن الممكن في لحظة غضب أو ثوران عاطفي أن تطلّق نفسها من زوجها... لكن ينسى هذا البعض بأنّ المرأة الّتي تنوي تطليق نفسها تحتاج إلى شاهدَيْن لتُتِمَّ الطّلاق... وبالتّأكيد فإنّها بعد أن تأتيَ بهما ستكون قد هدأتْ وعادتْ للحالة الّتي يغلب فيها عقلها على عاطفتها... (هذا في حال سلّمنا جدلاً بهكذا تبرير)... كما يعلّل البعض الآخر هذا الأمر بِكَوْن أغلب النّساء ينقصهنّ الوعي الكافي لاتّخاذ هكذا قرار (تطليق النّفس)... ونجيب هذا "البعض الآخر" بأنّ هذه المرأة نفسها، الّتي لا تُعتبَر واعيةً تماماً في موضوع الطّلاق، قد اعتُبرَتْ بالغةً راشدة عندما أقرّتْ بقبولها بالزّواج أمام رجل الدّين وأُخِذَ بإقرارها مع استحالة عقد الزّواج في حال رفضتْ ذلك، حتّى لو قبل وليّ أمرها بزواجها (الأب مثلاً)... فكيف تكون المرأة قادرةً على اتّخاذ القرار بتزويج نفسها ولكن عاجزةً عن تطليقها؟!... نكيل نفس الأمر بمكيالَيْن مختلفَيْن لنبرهن أحقيّة قانون "العصمة بيد الرّجل" الّذي وضعه العرف لتعزيز الذّكوريّة في المجتمع لا أكثر، وقد أصبح مصبوغاً بصبغةٍ شرعيّة تحميه وتحفظه على مرّ السّنين...
وعندما تفتح إحدى نساء هذه "الفئة" فمها لتطالب بحريّتها، لا تَسلَمُ من بعض الآراء المجحفة بحقّها... فيسألها البعض: "لمَ أنتِ على عجلةٍ من أمرِكْ؟ ألمْ يعد بإمكانِكِ العيش دون رجل؟!" يسخّف هذا البعض الأمر ويحوّله لمنحىً جنسيٍّ بحت... فتستحي من المطالبة أكثر وتنتظر مرور السّنين على مضضٍ لتُبيّنَ لهم بأنّها ليستْ على عجل... مع أنّ الموضوع أعمق بكثير... فأن تصبح حرّيّة الإنسان بيدٍ شخصٍ آخر لَأَمْرٌ صعب للغاية...
إنّ القيد الّذي يكبّل الإنسانَ لا يقتصر على سلاسلٍ مغلولةٍ بيديه ولا على غرفةٍ مُحظَّرٌ عليه الخروج منها... وزمن وأد البنات -الّذي نعتقدُ بأنّه ولّى إلى غير رجعة- لا زال يمتدّ إلى يومنا هذا متنكّراً بزيٍّ مختلفٍ لا تخفى حقيقته على من يتأمّل المشهدَ بتبصّرٍ وحكمة، ففي العصر الجاهليّ كانت الفتاة تُوأَدُ حيّةً تحت التّراب... ولكن في عصرنا الحالي، ها هي كلّ موءودةٍ "لا معلّقة ولا مطلّقة" تمشي حيّةً فوقه...
* رودينا خشيش - مونتريال- كندا
تعليقات: