دراسة ميدانيّة لمرحلة أوسلو وإشكاليّة فساد السلطة..
الجهود المخصّصة لـ«بناء الديموقراطيّة» قد ضخّت، منذ مطلع التسعينيات، بلايين الدولارات إلى ميزانيات المنظمات غير الحكومية على امتداد العالم الثالث، وصولاً إلى أخذ الإدارة الأميركية هذا الواجب على عاتقها، ابتداءً من عام 2001. فحقيقة الأمر أنّ خطاب المجتمع المدني قد بقي، على امتداد العالم الثالث، من الخصائص الأساسية للمبادرات الساعية إلى تعزيز الديموقراطية. وبالرغم من دورها في الديموقراطيات الغربية، إلا أنّ الجمعيات المدنية غالباً ما تعيد إنتاج عناصر الواقع السياسي الذي هي فيه، وتموضع نفسها وفقاً لذلك، ما يطرح السؤال: هل بإمكان الجمعيات المدنية الساعية للإصلاح السياسي أن «تسافر» من الغرب الديموقراطي إلى باقي دول العالم، حيث يطال تدخل الحكومات جميع أوجه المجتمع المدني؟
تقارب الباحثة العربية ـــ الأميركية أماني جمال في كتابها هذا السؤال، عبر دراسة ميدانية لواقع حال الجمعيات المدنية في الضفة الغربية خلال فترة عملية أوسلو للسلام (1993ـــ1999)، مقدمة تحليلاً ثاقباً للظروف السياسية التي تعزّز أو تقلّص دور الجمعيات المدنية في سعيها إلى «الدمقرطة».
من الصعب المحاججة ضدّ الطرح القائل إنّ الجمعيات المدنية تمثّل حجر الزاوية في الديموقراطيات الغربية الحديثة. في كتابه الشهير «الديموقراطية في أميركا»، يعزو عالم الاجتماع الفرنسي ألكسيس دي توكفيل نجاح الديموقراطية الأميركية إلى الغنى في حياتها المدنية. الجمعيات هي بمثابة «مدارس للقيم المدنية». «لا شيء»، يؤكّد دي توكفيل، «جدير بانتباهنا أكثر من الجمعيات الفكرية والأخلاقية في أميركا. في الجمعيات تُستقطب المشاعر والآراء ويُنمّى العقل البشري عبر التأثير المتبادل للرجال على بعضهم البعض ليس إلا». الباحثون الذين يسيرون على خطى دي توكفيل، يحاججون بأن المواطنين المشاركين في العمل المدني هم أكثر قابلية لتعلّم أهمية مبادئ مثل التسامح، التعددية، واحترام القانون.
وأخيراً، ترى معظم الأدبيات الراهنة أنّ الجمعيات المدنية تمثّل مواقع أساسية للتعبير والاستقطاب السياسيين، من خلال عملها كقوى موازية للأجهزة المركزية الحاكمة، وتشجيعها شرائح اجتماعية على معارضة النزعات الاستبدادية للحكومات. والجمعيات المذكورة تكتسب أهمية خاصة من خلال دورها المساعد في إخضاع الحكومات للمساءلة والمحاسبة، الضغط عليها لتقديم مزيد من التنازلات الديموقراطية، ومراقبة سلطات القادة في الأنظمة الأوتوقراطية. وفي السياق، يرى صموئيل هنتنغتون أن الجمعيات المدنية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي السابق كانت لها مساهمة في إسقاط الأنظمة الشيوعية. وهذه الفكرة بالذات قد أضحت في صلب الكثير من الأدبيات عن الاستقطاب السياسي، الحركات الاجتماعية، والعلاقة ما بين النظام والمعارضة.
غير أن «الدول في الديموقراطيات الغربية ليست مغروسة في مجتمعاتها»، بحسب تعبير جمال، وهي بالتالي تختلف عن الدول غير الديموقراطية في العالم العربي في نواح مهمة وواضحة للعيان. ففي الديموقراطيات الغربية وجود متأصّل لجماعات الضغط المستقلة؛ قنوات المشاركة السياسية هي في الأساس مضمونة؛ والزبائنية والفساد يلعبان دوراً أقلّ أهمية في الحياة السياسية اليومية ممّا هي عليه الحال في العالم العربي. «ماذا، إذاً»، تسأل الباحثة، «يمكن أن يُقال عن دور الجمعيات في تعزيز مستويات المشاركة المدنية، في أمكنة غير ديموقراطية مثل الضفة الغربية، حيث المؤسّسات السياسية الموجودة لا تدعم أنواع المشاركة المدنية المرتبطة بديموقراطية أكثر فاعلية؟».
ترى جمال أن فلسطين، بنوع خاص، توفّر أرضاً خصبة لدراسة مدى تأثير المجتمع المدني على «الدمقرطة». وقد قامت الباحثة بدراستها المذكورة خلال فترة 1998ـــ1999، حيث، وصولاً إليها، كان معظم الفلسطينيين قد عاشوا لفترة ست سنوات تحت حكم السلطة الوطنية الفلسطينية. ولو كنا شهدنا نهاية للاحتلال الإسرائيلي وتوصّلاً لاتفاقية سلام، لكان الفلسطينيون قد أصبحوا على الطريق لبناء دولتهم. لذا، تخلص الباحثة إلى أنّ دراسة واقع حال الجمعيات المدنية في فلسطين، تقدّم لنا صورة دقيقة عن الطرق التي من خلالها يستطيع المجتمع المدني أن يؤثر في عمليات «الدمقرطة» وبناء الدولة.
تؤكّد جمال أنّ السلطة الوطنية الفلسطينية، في عام 1999، وبالرغم من مظهرها الديموقراطي، عكست، في الحقيقة، واقع حال معظم الدول في العالم العربي. فقد كانت نموذجاً لنظام استبدادي يعزز مركزية السلطة عبر شبكة من العلاقات الزبائنية الرسمية وغير الرسمية، وفي تركيزها على طبيعة العلاقة بين السلطة الوطنية الفلسطينية والمجتمع المدني الفلسطيني، وتهدف الباحثة إلى فهم «التأثيرات الديموقراطية» للعمل المدني في الأمكنة، حيث «الأنظمة القائمة مغروسة في المجتمعات».
عرفت الجمعيات المدنية الفلسطينية ازدهاراً خلال فترة عملية أوسلو للسلام. وبالرغم من أنّ المشاركة في هذه الجمعيات قد أنعشت العمل المدني ورفعت مستويات الثقة بين الأفراد (كمقياس للرأسمال الاجتماعي)، إلا أنّه، بحسب جمال، لم يكن هناك من علاقة مباشرة بين مستوى المشاركة المدنية، الثقة بين الأفراد، ودعم المؤسّسات الديموقراطية. بناءً على معطيات مستقاة من تحقيقين، واحد مع عامة الشعب الفلسطيني وآخر مع أعضاء في الجمعيات المدنية، ومقابلات مع عشرات من قياديّي الجمعيات المدنية الفلسطينية، وجدت الباحثة أن ثمة علاقة عكسية بين أنماط المشاركة المدنية ومستويات الثقة بين الأفراد. وهي تعزو هذا إلى طبيعة العلاقة التي تربط السلطة بالمجتمع. ففي بيئة سياسية تسود فيها الزبائنية، تُظهر الجمعيات الموالية للنظام مستويات أعلى من الثقة بين الأفراد، ودرجات أدنى من الأشكال الديموقراطية للمشاركة المدنية. أو عكساً، فإنّ الجمعيات غير المرتبطة بالنظام تُظهر مستويات أدنى من الثقة بين الأفراد، ومستويات أعلى من المشاركة الديموقراطية المدنية.
غير أن زبائنية الدولة المركزية، هي من خصائص العديد من دول العالم العربي لا الضفة الغربية فحسب. لذا، تختبر جمال خلاصاتها الفلسطينية عبر دراسة الحالة في ثلاث دول عربية أخرى ذات جذور استبدادية: مصر، الأردن، والمغرب، لتجد سيطرة مماثلة للحكومات على المجتمع المدني. وتخلص الباحثة إلى أن الجمعيات المدنية، على تنوّعها، تعيد إنتاج عناصر الواقع السياسي الموجودة فيه، وتموضع نفسها وفقاً لذلك. فحيث يكون إطار «العمل المدني» عرضة لسيطرة النزعات الزبائنية للدولة المركزية، تصبح الجمعيات المدنية هي أيضاً مواقع لاستيلاد ممكن لتلك الصلات العمودية.
* باحث لبناني
تعليقات: