النائب علي الخليل قرب الحدود في الخيام
30 عاماً على أول اجتياح إسرائيلي واسع للجنوب..
علي حسن خليل: المقاومة والممانعة طبعتا حياة الجنوبيين منذ عقود..
قبل 30 عاماً اجتاحت القوات الإسرائيلية الجنوب في اول عملية توغل كبيرة منذ قيام كيانها في العام 1948، علماً ان اجتياحاً محدوداً لبلدتي بنت جبيل وعيناتا وغيرهما حصل في كانون الثاني 1972. وعامذاك تصدى "الحرس الشعبي"، الذراع العسكري للحزب الشيوعي اللبناني، للإسرائيليين، واستشهد علي ايوب من عيناتا في ذلك الإجتياح.
قليلون ربما يتذكرون ان اسرائيل اجتاحت لبنان للمرة الأولى قبل 30 عاماً، وتحديداً في الخامس عشر من آذار 1978.
يومذاك اعلن ان تل ابيب تقوم بعملية تطهير ولن تصطدم بالجيش اللبناني او "قوات الردع العربية". ورغم المزاعم الإسرائيلية بعدم ايذاء السكان المدنيين في الجنوب، فإن مجازر عدة ارتكبتها اسرائيل في الخيام وغيرها من البلدات والقرى الجنوبية، وكذلك في منطقة الأوزاعي، حيث قتل العشرات جراء الغارات الإسرائيلية. والمفارقة ان عدداً من الضحايا كانوا هربوا من الجنوب الى بيروت وضواحيها حيث لقوا حتفهم ومن هؤلاء عائلة من آل جعفر.
اما النازحون من الجنوب فتوزعوا على صيدا وبيروت، واقيمت لهم المخيمات مما ذكرهم بمعاناة الشعب الفلسطيني.
ورغم صدور القرار 425 في 19 آذار 1978، الا ان اسرائيل، وكعادتها، لم ترتدع ولم تنفذ هذا القرار. وكان السفير اللبناني الأسبق لدى منظمة الأمم المتحدة غسان تويني من ابرز واضعي نص ذلك القرار، وفي خطابه امام مجلس الأمن ردد عبارته الشهيرة "دعوا شعبي يعيش في سلام".
ناجون من المجازر
في بلدة الخيام الحدودية، كان الطقس الربيعي يرخي بنسيمه العليل على ارجاء البلدة، وابنائها يتابعون حياتهم اليومية. الا ان هدير الدبابات كان يقترب، وبدأت المعلومات تصل عن اجتياح للبلدة. تجمع بعض النساء والشيوخ في منزل أحمد عبد الله، ولكن دخول الميليشيات المتعاملة مع القوات الإسرائيلية كان سريعاً.
وفي احد المنازل ارغم من بقي في البلدة على التجمع، وبعد تحقيق قصير، اعدم معظم هؤلاء باستثناء واحد منهم.
منى حمود (43 عاماً) كانت في الخيام عندما اجتاحها المتعاملون مع اسرائيل في بداية الأمر، وهربت مع اهلها الى البقاع، وتعود بالذاكرة الى العام 1978 "عامذاك كان عمري 13 عاماً، شاهدنا الدبابات الإسرائيلية تقترب من البلدة. وبعد لحظات بدأ الفلسطينيون مغادرتها ودخلها بعض اهالي القرى المجاورة، وفي الساحة تجمع عدد من المشايخ الذين رفضوا مغادرة الخيام.
هناك تم اعدامهم، ولم نعد نعرف عن البلدة اي شيء، الى ان عدنا اليها في العام 1982".
اما المختار ادهم عبد الله فيصعب عليه تذكر تلك الأيام السود في تاريخ الخيام، ويذكّر باغتيال الدكتور شكرالله كرم والد الوزير السابق كرم كرم "دخلوا عيادته واردوه قتيلاً. كانوا من بلدة مجاورة، وبعدها غادرنا البلدة الى بيروت وعدنا بعد التحرير عام 2000".
اما من كتب له النجاح في الهرب من الخيام فتوجه نحو حي السلم في الضاحية الجنوبية لبيروت، على امل العودة الى البلدة بعد ايام.
ويروي محمد خنافر، من بلدة عيناتا الحدودية، ان الإسرائيليين دخلوا البلدة من دون ان يرتكبوا المجازر، لكن حالة الذعر في عيناتا كانت غير مسبوقة رغم وجود قواعد عدة للفدائيين والشيوعيين على مشارف البلدة. لكن التفوق العسكري الجوي والبري الإسرائيلي حسم المعركة، وسقط شهيد من عيناتا هو ابرهيم فرج بعدما سقط من صندوق سيارة في بلدة وادي جيلو.
حكاية النزوح
كانت شمس الربيع ترخي أشعتها الخفيفة على البيادر في قرية عيناتا. الحركة العادية في البلدة لم يكسر رتابتها سوى ضجيج "الثوار" اليسار والبعث بشقيه السوري والعراقي. لكن اصوات القذائف الاسرائيلية كان يشي ان رتابة عيناتا لن تدوم طويلاً، فالطائرات الاسرائيلية بدأت تحجب اشعة الشمس والاخبار السيئة تلوح في الافق. انه الاجتياح الثاني لعيناتا بعد اربعة اعوام من الاجتياح الاول، عامذاك تصدت البلدة للغزاة وخرج ابناؤها للمواجهة وسقط الشهيد علي ايوب على تلال البلدة بعد مواجهة غير متكافئة مع دبابات العدو.
"يلا يا شباب نزلوا الشيوخ والنساء والاطفال الى الملاجىء" يصرخ البعثي العراقي علي. إ. ومن في امكانه مغادرة البلدة فلا يتأخر. الآليات العسكرية الخفيفة للحزب الشيوعي تجوب اطراف البلدة، والشباب توجهوا الى تلة مسعود ومنطقة صف الهوا، حيث يتمركز الفدائيون الفلسطينيون والقوات المشتركة.
في هذا الوقت بانت طلائع السيارات والحافلات المكتظة بعشرات الجنوبيين من بنت جبيل وعيترون وبليدا وغيرها من القرى الحدودية، واتجهت المواكب الى مدينة صور.
من صور تفرق النازحون في اتجاهات عدة. بعضهم قرر الذهاب الى بيروت، والآخرون الى صيدا وعدلون، ومنهم من بات ليلته الاولى في صور. كان الاعتقاد ان العودة الى المنطقة الحدودية لن تطول لان اسرائيل لا تنوي احتلال الجنوب.
احدى عائلات عيناتا وصلت الى بيروت مساء، وباتت ليلتها الاولى في مخيم صبرا للاجئين الفلسطينيين. وفي اليوم التالي قصدت منزل احد الاقارب في منطقة المصيطبة، فالاخير موظف في وزارة المالية ويقيم في المدينة منذ 10 اعوام، لكن منزله صغير ولا يتسع لاكثر من اربعة اشخاص، والعائلة النازحة عدد افرادها عشرة. لذلك كان الاستقبال فاتراً وعادت العائلة ادراجها الى مخيم اللاجئين في صبرا.
اذا كانت هذه العائلة وصلت بأمان الى مخيم صبرا، فإن آخرين مشوا في تظاهرة متفرقة، نساءً واطفالاً وشيوخاً. منهم من انتظر طويلاً، ومنهم من رضي الركوب على ظهر الحافلات والجرارات الزراعية وصولاً الى مشارف صور حيث الأمان الموقت. وآخرون انتقلوا الى بيروت. والى ضاحيتها الجنوبية قرب الأوزاعي تجمهر عدد من الأهالي في انتظار الأقارب. بعضهم وصل واستطاع تأمين مأوى، والآخر لم يصل وفضل البقاء في الجنوب. عائلة مؤلفة من 10 اشخاص استقلت جراراً زراعياً الى صور، ومن هناك وجدت باصاً نقلها الى بيروت. لكن ماذا يفعلون في بيروت وهم لا يعرفون احداً؟ بالمصادفة وصلوا الى الأوزاعي، هناك منزل مهجور كانت تشغله "قوات الردع العربية" وفيه غرفة واحدة صالحة للسكن. فيها تكدس 22 شخصاً. وبعد اسابيع شرعوا في ترميم بقية الغرف وظنوا ان الإقامة هنا لأسابيع او اشهر. واذا بها تطول الى 24 ايار 2000. فقط 22 عاماً و68 يوماً بالتمام والكمال!
بعد هذه المحطة "البيروتية" لم تعد البلدة تعني لهم الكثير. صحيح ان الأرض اشتاقت الى شتلة التبغ وسنابل القمح، لكن الأولاد الذين باتوا شباناً وصبايا وجدوا عملاً في العاصمة. الفتاة الكبرى اصبحت ممرضة في احدى المستشفيات الخاصة، والأخرى اختارت ايضاً مهنة التمريض، اما الشباب فالتحقوا بالمدارس في بيروت واليوم هم على اهبة الإستعداد للسفر.
22 عاماً تخلى خلالها بعض الجنوبيين عن حياتهم التقليدية. اضحوا من سكان العاصمة وضواحيها. لم يعد منزل العائلة في عيناتا الا ذكرى، يزورونه مرة في الشهر. وربما مرة في السنة.
تزوج الشبان وكذلك الفتيات. منهم من سافر الى الولايات المتحدة الأميركية، والسعودية وبريطانيا... الخ. ومنهم من ظل اميناً على عهد العودة الى عيناتا، لكن الحرب لم تبق عددهم كما كان، فاختطفت تباعاً الأب والإبن البكر وكذلك الإبنة الصغرى. لم يتسن لبعضهم زيارة الأضرحة. بعد 24 ايار 2000 هبوا الى الجنوب وقرأوا الفاتحة على اضرحة احبتهم.
هي عائلة جنوبية ارغمها الإجتياح الأول على مغادرة عيناتا الى بيروت، وارغمتها الحرب الداخلية على الهجرة، او الإلتحاق بالأحزاب "الوطنية". والمصير كان اما الموت او الغربة القسرية المستمرة حتى اليوم. ليس مهماً ذكر اسماء هذه العائلة لكنها واحدة من مئات العوائل الجنوبية التي وفدت الى العاصمة ولم تغادرها منذ 30 عاماً، واصبحت عيناتا مجرد ذكرى بالنسبة اليها. وخصوصاً ان عدوان تموز الأخير لم يبق منزلاً ولا حتى شجرة. على امل ان يكون المنزل الجديد المنجز بأموال قطرية بادرة خير، لن تدمره حرب مقبلة، لكن الحرب المقبلة... مقبلة؟!.
التصدي المحدود للاجتياح
لم تكن الفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية تتوقع اجتياحاً بهذه السرعة رداً على عملية الفدائية دلال مغربي، لكن هدف اسرائيل كان ضمان امن منطقتها الشمالية وارسال رسالة مفادها ان اي عملية اسرائيلية ستواجه بردٍ قاسٍ. لكن تقدم قوات العدو واجهته الفصائل الفلسطينية والأحزاب الوطنية، وأحد المشاركين في التصدي لقوات الإحتلال من بلدة عيناتا علي إ. يقول "لم نكن نتوقع الإجتياح الإسرائيلي، ولكننا قاومنا العدو في صف الهوا (بنت جبيل) وقانا ورب ثلاثين".
ويؤكد المقاتل السابق ان بلدة عيناتا قاومت الإسرائيليين عبر "حركة الأنصار" التي شكلها الشيوعيون بعد تجربة المرسى الشعبي.
خليل: الصدر
أول المحذرين من الاجتياحات
النائب علي حسن خليل يعتبر ان اجتياح العام 1978 كشف حقيقة المشروع الإسرائيلي بالتوسع على المستويين الإقتصادي والسياسي، وخصوصاً ان الأمر كان موضع تحذير من الإمام السيد موسى الصدر، نظراً الى ان لبنان يشكل النقيض لإسرائيل. وسهل الأمر مسألتين:
- عدم وضوح الخيار السياسي اللبناني لجهة دور لبنان وانتمائه.
- الإنقسام والحروب الداخلية من جهة ثانية.
ويضيف "هذا ما كان يحذر منه الامام الصدر في كل المراحل التي سبقت الإجتياح، فدعا الى ادراك مخاطر المشروع الإسرائيلي في المنطقة، كما دعا الى السلام الداخلي باعتباره افضل وجوه الحرب مع اسرائيل".
ويؤكد خليل ان همجية اسرائيل كانت واضحة في هذا لإحتلال من حيث ادارتها وتغطيتها اكثر من مجزرة في الجنوب، ما شكل امتدادا لمجازر سابقة في بلدة حولا الحدودية (1949) وصولاً الى العام 1978 عبر مجزرة الخيام، وما سبقها عملية تصفيات لرموز وطنية كثيرة منها الدكتور شكرالله كرم. اما عن مجزرة الخيام فيقول "هذه المجزرة اتت انتقاماً لدور هذه البلدة التاريخي المميز وموقعها في صناعة التاريخ المقاوم والممانع لبلدة طبعت الحياة السياسية عبر الكثير من قادتها وابنائها الذين لعبوا دوراً مركزياً في هذه الحياة".
ويختم "اتت المجزرة لتكمل مشهد الدمار الشامل الذي احدثه العدو في الحجر، في محاولة لقتل اي مشهد حياة في هذه البلدة. لكن ارادة الحياة جددت مشهد قيامة حقيقية للخيام اكثر من مرة".
وتجربة الهدم المنظم خلال عدوان 2006 بالطيران والسرعة القياسية لعودة الناس اولاً ولورشة اعادة الاعمار من جهة ثانية، خير دليل على ان ارادة الحياة اقوى بكثير من ارادة القتل لدى الإسرائيليين.
الخيام اثناء الاجتياح.
قوافل النازحين من الجنوب عام 1978
تعليقات: