كيف انتقل التوتر من نهر البارد إلى عين الحلوة؟

عاد مخيم عين الحلوة إلى الواجهة بعدما شهد في السابع من الشهر الجاري حدثاً دموياً تمثل بإقدام خمسة مسلحين على اغتيال مرافقَيـْن للمسؤول في حركة فتح محمد عيسى المعروف بـ"اللينو"، بوضح النهار، وقد أعقب الحادث، اشتباك محدود أصيبت على إثره فتاة فلسطينية، وكالعادة استأنفت لجنة المتابعة المشكّلة من الفصائل الفلسطينية جهود التهدئة، وقد أصدرت بياناً أدان الحادثة وطالب بالاقتصاص من الجناة. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، ما استدعى تشكيل لجنة عسكرية من حركة فتح برئاسة العميد جاسر يغمور، مؤلفة من أربع كتائب يتولى مسؤولية كل منها: العميد صبحي أبو عرب، الرائد اللينو، وإبراهيم المقدح (طاووس)، والعقيد خالد الشايب، على أن تتحرك القوة عسكرياً بعد مضي مهلة 72 ساعة كانت قد أعطتها حركة فتح للمتورطين لتسليم أنفسهم. وانعكس هذا الأمر، حالاً من التوتر دفع العديد من العائلات الفلسطينية إلى النزوح عن المخيم، لكن المهلة مضت دون حصول التسليم، ودون وقوع المزيد من الاشتباكات.

توازن القوى

مخيم عين الحلوة ليس كباقي المخيمات. فتوازن القوى بين فتح ومعارضيها سمة أساس فيه، وقد تكرّست هذه الحالة بعد الاشتباك الذي جرى في أيار من العام 2003 بين حركة فتح وعصبة الأنصار، عقب محاولة اغتيال عبد الله الشريدي، زعيم عصبة النور المنشقة عن عصبة الأنصار، بعدما تطور الموقف باتجاه دخول عصبة الأنصار والقوى الإسلامية المتشددة الأخرى معاً في مواجهة حركة فتح، الأمر الذي أرسى قاعدة توازن قوى ما تزال سارية إلى اليوم.

العناصر الإسلامية المتشددة تعتبر "تصفية" الفتحاويين "أبو عمرة" الأسمر ـ من مواليد مخيم البارد في الشمال ـ و"أبو عمرة" الأشقر ـ سوري الجنسية ـ من باب الرد بالمثل على اغتيال عبد الله الشريدي، والتي أودت أيضاً بعمه يحيى الشريدي وعجوز من آل فرهود، قبل نحو أربع سنوات. لكن الجهات المتابعة تربط الموضوع بحسابات سياسية ذات صلة بما يجري في مخيم نهر البارد، حيث باتت العناصر التي تـُعرف تجاوزاً باسم "جند الشام"، في إطار تنظيم "فتح الإسلام" عملياً، الأمر الذي يعني في التحليل السياسي أن تفجير الوضع نابع من رغبة التنظيم المذكور في إشغال حركة فتح في عين الحلوة، مستفيداً من حالة التوازن القائمة بين القوى الإسلامية وفتح، حيث تعتبر عصبة الأنصار قوة مرهوبة الجانب في هذا المخيم.

جهود التهدئة

فور وقوع الاغتيال الأخير تكثفت جهود للتهدئة، وعقدت اجتماعات منفصلة في منزل كل من النائب بهية الحريري، والنائب أسامة سعد، لكن الجهد الأساس قامت به حركة حماس عبر مسؤولها السياسي في المخيم أبو أحمد فضل، والجماعة الإسلامية عبر مسؤولها السياسي في الجنوب بسام حمود. وتردد في هذا الإطار أن اتصالاً جرى بين رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل بالمسؤول في عصبة الأنصار أبي طارق السعدي، لكن الأمر لم يكن صحيحاً، وإنما جرى اتصال من عباس زكي "أبو مشعل" بالمسؤول في العصبة الأنصار.

الاهتمام بموقف ودور عصبة الأنصار مرده إلى أن "العصبة" كانت قد وافقت على احتضان المجموعات المتشددة التي كانت تنتشر في منطقة التعمير القريبة من مخيم عين الحلوة، داخل منطقة نفوذها، وهي منطقة الطوارئ على أطراف المخيم المذكور، لدى دخول الجيش اللبناني إلى منطقة التعمير في كانون الثاني من العام الجاري، باعتبار أن العناصر المذكورة لم يكن بإمكانها التواجد في المخيم دون حماية، خوفاً من تصفيتها من قبل عناصر فتح، وبالمقابل لم تكن تجرؤ على مغادرة المخيم باعتبارها مطلوبة من قبل أجهزة الأمن اللبنانية. لكن "العصبة" التي أدانت الفعلة الأخيرة لهذه العناصر غير المنضبطة، رفضت أن يجري الاقتصاص من هؤلاء في "منطقتها" تحت طائلة دخولها طرفاً في المواجهة، للدفاع عن منطقة نفوذها، وإزاء هذا الموقف انصبت جهود لجنة المتابعة على إقناع فتح وذوي المغدوريـْن بفصل مسألة دفنهما عن مسألة الاقتصاص من القتلة، حتى ترتاح الأجواء في المخيم ويجري التفاهم لاحقاً على كيفية الاقتصاص من القتلة، وهو ما حصل فعلاً، بعد الاجتماع الذي جرى في مقر "أبو هنود" التابع لحماس في المخيم بحضور ممثلين عن القوى الفلسطينية والإسلامية كافة.

عبثية العناصر المتشددة

في معرض الحديث عن العناصر المتشددة المسؤولة عن التوتير في مخيم عين الحلوة، من المفيد التأكيد على عدم وجود جهة تنظيمية حالياً اسمها "جند الشام"، كما يُتداول في الإعلام، فالرجل الذي أنشأ وترأس التنظيم داخل المخيم يدعى أبو يوسف شرقية، وقد حلّ بنفسه التنظيم ونفض يده منه في 6/10/2004، بعدما ضاق ذرعاً من تمرد عناصره، فتحوّل هؤلاء إلى مجموعات على رأس كل منها "أمير"، أبرزهم حالياً عماد ياسين، المسؤول العسكري السابق في "جند الشام"، وأبو رامز السحمراني من مجموعة الضنية، لكن ذكر تنظيم "جند الشام" لم يتوقف في كل من سوريا ولبنان، وقد تأكد لغير جهة أمنية في لبنان وخارجه حجم الاستغلال المخابراتي لإسم هذا التنظيم على صعيد البيانات الملفقة والأعمال المنسوبة إليه.

التقدير الميداني الحالي لهذه العناصر يتراوح بين 40 ـ 50 عنصراً بالحد الأقصى، لا يجمعهم "رأس" ولا "يمون عليهم" أحد، وقد انشق بعضهم عن عصبة الأنصار ثم عن عصبة النور، ولجأ بعضهم الآخر إلى داخل المخيم من أماكن أخرى، وهم في غالبهم غير منضبطين ومطلوبون للقضاء، ومستعدون دائماً للموت، في ما يعتقدون أنه جهاد.

من الناحية النظرية فإن غياب الرابط التنظيمي يسهّل الاختراق، فضلاً عن العبثية في السلوك، واللامسؤولية في المواقف، وأهم من ذلك أن التزمّت الفكري سيقود هؤلاء بالضرورة إلى الجهة الأكثر تشدداً، وهو الحاصل راهناً، حيث وصل الأمر بهؤلاء إلى التهديد العلني بالانتقام من فتح في عين الحلوة إذا ما هاجمت فتح الإسلام في نهر البارد، وقد رصدت جهات من داخل المخيم دعماً مالياً ولوجستياً بين نهر البارد وعين الحلوة تحت عنوان "النصرة".

بذور التوتر الكامنة

ليس مستبعداً الآن، أن يعود الوضع إلى التفجر من جديد، رغم ما أبدته حركة فتح من حرص على عدم الانجرار إلى معركة قاسية تدمر المخيم. ذلك أن ثمة من له مصلحة بتفجير الأوضاع، والعناصر المتشددة إياها تعتبر أن إدانة عصبة الأنصار للجريمة غير مقبول، وتركيز عدد من خطباء الجمعة القريبين من "العصبة" على التهدئة أمر لم يعجب هذه العناصر التي خرج بعضها من مسجدي النور والشهداء استنكاراً، فضلاً عن نشر جهات غير معلومة حتى الآن، شريطاً يصور عملية القتل الأخيرة عبر أجهزة الهاتف النقال، ليتبين لاحقاً أن التصوير ملفق، وأنه مصور في العراق وليس في عين الحلوة، إضافة إلى توقيف حركة فتح لثلاثة عناصر قريبة من المجموعة التي "أعدمت" مرافقي الرائد "اللينو"، والتطور الأهم تمثل في محاولة اغتيال ممثل عصبة الأنصار في لجنة المتابعة طه الشريدي في حي الصفصاف داخل المخيم، ليل 12 ـ 13 الجاري، وقد أبرأت "العصبة" لاحقاً ساحة خصمها التقليدي فتح من الاتهام، ما أعطى إشارة إلى أن المجموعات المتشددة والمتورطة في جريمة القتل الأخيرة هي التي تقف وراء محاولة اغتيال طه الشريدي، يضاف إلى كل ذلك إصرار مجموعات في فتح، على رأسها الرائد "اللينو" على ضرورة الحسم العسكري.

(*) كاتب في الشؤون الإسلامية

تعليقات: