د سليم الحص
المشكلة بين فريقين، كل يغني على ليلاه. الخلاف محتدم ولا تجد مكاناً يلتقي فيه فريقا النزاع للتباحث والتفاوض توصلاً إلى تسوية تنهي الأزمة المستحكمة وتعود بالبلاد إلى شيء من الانفراج والاستقرار يمكّن الناس من استعادة الحد الأدنى من مقومات العيش الطبيعي ولا نقول العيش الكريم.
يتهافت الناس على سماع هذا الزعيم أو ذاك من زعماء البلاد يتحدث أو يخطب، عسى أن يتلمّسوا في ما يصدر عنه ما يبشر ببزوغ ضوء في نهاية النفق المظلم، أو ما يؤشر إلى بادرة على طريق إنقاذ الوطن من السقوط في هاوية يترنح على شفيرها، أو ما يطمئن إلى أمل في مستقبل أفضل لشعب طالت محنته، فإذا الخطيب المفوّه يخاطب جماعته، يتحدث إلى جمهوره، يدغدغ مشاعر مناصريه مستنفراً حماس المصفقين له. فليس بين زعماء لبنان من يخاطب الجمهور الآخر، فكلهم يتحدث إلى نفسه. والكلام اجترار. لا جديد فيه، إلا المزيد من استثارة الغرائز والعصبيات. وكأنما المطلوب تعميق الانقسامات ولا شيء آخر. اللعبة مستمرة، وهي أقرب ما تكون إلى لعبة الموت. لا خاتمة لها، على ما يتراءى حتى هذه اللحظة، إلا الانتحار، الانتحار الوطني.
ساسة لبنان يتصرفون وكأنهم أهل الحل والربط، أصحاب القرار. إن كانوا فعلاً كذلك، فهل يرتضون لشعبهم ووطنهم هذا المصير المحتوم؟ إننا ننصفهم، لا بل نرحمهم، عندما نقول إن انكفاءهم عن الإقدام على إيجاد حل لأزمة بلدهم، أو عجزهم عن ذلك، لا تفسير له إلا على أحد وجهين: فإما أنهم لا يريدون حلاً للأزمة وهم منتشون بكونهم نجومها، أو أن زمام القرار، قرار الحل، ليس في يدهم وإنما هو في أيدي مراجع خارجية هم في لبنان من أدواتها أو أتباعها أو اشباحها. ولعل بعض نجوم الساحة اللبنانية ينطبق عليهم القولان معاً: فهم لا يريدون حلاً للأزمة وهم لا يملكون قرار حلها.
كلنا يدرك أن لبنان الوطن أضحى حلماً، بعدما استحالت أرضه ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. لم يعد بين اللبنانيين من لا يعي أن ثمة صراعاً يدور على ساحة بلده بين محورين: محور سوريا - إيران من جهة، ومحور أمريكا - “إسرائيل” من جهة ثانية. ولقد انقسم اللبنانيون في معظمهم فريقين: فريقاً يوالي المحور السوري - الإيراني وفريقاً يوالي المحور الأمريكي - “الإسرائيلي”. ولن يلتقي الفريقان اللبنانيان، على ما يبدو، إلا عندما يلتقي المحوران. وأدهى ما في هذا الواقع المرير أن عدو لبنان والعرب، الكيان الصهيوني، يشغل موقعاً وازناً في أحد المحورين. نحن لا نرى فارقاً، ولا حتى في التفاصيل، بين ما يسمى سياسة أو استراتيجية أمريكية وسياسة أو استراتيجية “إسرائيلية” في لبنان والمنطقة. لا بل إننا لا ندري ما إذا كان المحور الأمريكي “الإسرائيلي” مسيّراً بقرار أمريكي أم بقرار “إسرائيلي”. الراهن أن القرار يصب دوماً في مصلحة الكيان الصهيوني.
وعلى هامش الصراعات الإقليمية والدولية التي تدور على مسرح بلدنا الصغير نشب إشكال بين دولتين شقيقتين هما المملكة العربية السعودية وسوريا، على خلفية تشعبت التفسيرات والتبريرات لها على نحو لم يعد اللبناني يفقه حقيقتها كما لم يعد يتبين طريقاً لنهايتها. واللبناني معذور في إغراقه في التبسيط إذ بات يرى الحل لأزمته المستعصية في وفاق يُستعاد بين السعودية وسوريا. فالتبسيط مبرر بالرهان على أن هذا الوفاق إن تمّ فإن الجانب السعودي منه كفيل بتحييد العامل الأمريكي والجانب السوري كفيل بتحييد العامل الإيراني في الاشتباك الإقليمي الدولي الذي يرزح البلد الصغير تحت وطأته في غيبوبة شبه كلية من أهل السياسة والقرار فيه.
الكل في لبنان يتطلع بأمل، ولو ضئيلاً، إلى القمة العربية المقبلة لشق طريق الحل لأزمة لبنان. ولكن ليس بين اللبنانيين من يراهن على حل يتمخض عن القمة العربية بوجود ما نشهد من خلافات بين الأطراف العربية. والمواطن اللبناني يقف مشدوهاً أمام سؤال ينغص عليه حياته: ماذا بعد القمة إن لم يكن حل؟ إلامَ يتطلع؟ لن تكون هناك محطة أخرى بعد القمة يمكن أن يمنّي اللبناني نفسه باستدرار الحل عبرها. ولسوف يحل موعد الانتخابات النيابية في عام 2009 من دون أن تعقد هذه الانتخابات، وذلك لسببين: أولاً، لأن الحكومة القائمة لا تستطيع أن تجري انتخابات ذات صدقية ونصف اللبنانيين لا يعترفون بشرعيتها أو ميثاقيتها أو دستوريتها. وثانياً، لأن قانون الانتخاب القائم غير مقبول بما يشبه الإجماع بين اللبنانيين، وليس من سبيل لاستصدار قانون جديد يحظى بالتوافق في حال استمرار الأزمة.
هذا يعني، ببساطة، أن القمة العربية إن عبرت من دون إيجاد حل ناجع لأزمة لبنان، فإن المستقبل يغدو مفتوحاً على أوخم الاحتمالات، بما في ذلك أن يحل العام 2009 ولبنان من دون مؤسسات دستورية. فرئاسة الجمهورية شاغرة ومجلس النواب تنقضي ولايته من دون انتخاب مجلس جديد، والحكومة بتراء يطعن نصف الشعب اللبناني بشرعيتها ودستوريتها وميثاقيتها. هذا يعني أن لبنان يغدو من دون دولة، في غياب المؤسسات الدستورية، ومن دون سلطة فعلية. وهذا وضع لا يحتمل، وهو مفتوح على احتمال تفاقم حالة الفوضى، والفوضى لن تكون خلاقة من قريب أو بعيد، كما توحي المقولة الأمريكية، بل هدامة بكل معنى الكلمة.
هذا الخطر يجب تداركه، وهذا لن يكون من دون وعي القيادات اللبنانية، على ضفتي النزاع المحتدم، لهذا الخطر وأبعاده على المصير الوطني. والمطلوب عند ذاك أن يلتقي فريقا النزاع على مبدأ لبننة قرار الحل، بمعنى الاتفاق على تجاهل العوامل الخارجية والإشاحة عنها، والجلوس معاً حول طاولة الحوار لمناقشة المعالجات الممكنة للأزمة ومن ثم الاتفاق على قواسم مشتركة لإنقاذ المصير الوطني، وذلك بصرف النظر عن رأي أو موقف هذا أو ذاك من القوى الخارجية. ولتكن المبادرة العربية منطلق المناقشات المطلوبة ومحورها. ليس ما يحول دون لبننة قرار الحل على هذا النحو سوى فقدان الإرادة الوطنية. فلنستعد إراداتنا الوطنية إنقاذاً للمصير.
(عن
الخليج الاماراتية)
تعليقات: