حين سألني صديقي الاستاذ جهاد الزين في حديث هاتفي بيننا عن اخبار الدورة المقبلة للمؤتمر القومي العربي في البحرين مرفقا سؤاله باستفسارات معهودة به من نوع "كيف سيكون هذا المؤتمر في البحرين بالذات؟" كيف سيتعامل مع "لهيب الفتنة المذهبية المتجول في غير بلد ومنطقة عربية؟". ولم ينس كعادته ان يرفق اسئلته بتعليق طريف من تعليقاته: "اسم الامين العام غير موفق للمرحلة. فكيف يمكنكم تحت اسم السفياني (مشيرا الى المحامي المغربي خالد السفياني امين عام المؤتمر) ان تعالجوا قضية التوتر المذهبي القائم في المنطقة"؟!
اجبت جاهداً ضاحكا "ستجد في المؤتمر ايضا شخصيات لبنانية وعراقية وخليجية تحمل اسم "الموسوي" و"الحسيني" كما ستجد في "السفياني" سيفا على الفتنة والتحريض شأنه شأن الغالبية الساحقة من اعضاء المؤتمر الذين حاولت وسائل اعلامية متعددة تصوير اعتراضهم على محاولة بث فيلم ذي رائحة مذهبية في احدى قاعات الغداء (دون علم امين عام المؤتمر الذي اقدم بدوره على منع عرضه)، وكأنه مشادة طائفية قامت ولم تقعد، وتفجيرا مذهبيا حصل ولم يهدأ، علما ان المؤتمر عقد جلساته على مدى ثلاثة ايام، وانجز جدول اعماله الكثيف، بسلاسة تامة وهدوء لافت.
لقد قابلت تساؤلات صديقي الصحافي المتميز، (الذي توقف عن حضور دورات المؤتمر، منذ انعقاده في بغداد 2001)، بشيء من الفرح الغامض لأنني رأيت في اهتمامه تعبيرا عن واحد من امرين: اما نباهة صحافية، معروفة عن جهاد وعن قوة حدسه السياسي وحسه "الاستباقي" للتطورات، واما حنين يسبق عودة "الابن الصعب" بشروطه، الحاد بنقديته، الى حضن المؤتمر وقد كان جهاد يوما واحدا من 50 شخصية عربية اعلنت تأسيسه في تونس في ربيع 1990، وتنقل بعد ذلك، اي المؤتمر، في عواصم عربية وصولا الى بغداد في عام 2001، حيث كانت المشاركة الاخيرة لجهاد (ولعدد آخر من الاعضاء) وقد كتب يومها مقالات قاسية عن ذلك الانعقاد معتبرا اياه غطاء لنظام استبدادي فيما اعتبرت، في ردي آنذاك عليه (مثل كثيرين من اعضاء المؤتمر ذوي التاريخ المليء بالاختلاف مع ذلك النظام) ان الانعقاد في بغداد كان تضامنا مع بلد عربي، ثري بموارده، عريق بتراثه، غني بشعبه، عزيز بقوته، يدفع ثمن حصار دولي جائر اودى بحياة اكثر من مليون من ابنائه، اكثرهم من الاطفال، بل كان دفاعا عن قطر عربي بات مهددا في وجوده ووحدته وهويته بفعل حرب كانت تلوح في الافق آنذاك...
بعد ذلك السجال خرج المؤتمر من احاديثنا المشتركة التي عادت لتدور في قضايانا الراهنة والساخنة، وهي كثيرة، حتى كان الحديث الاخير حيث لم يخف فيه جهاد رغبة في حضور استطلاعي لمؤتمر بلغ سن الرشد كما يقولون (18 عاما) لولا ظروف طارئة شغلته.
ولقد فسرت اهتمام جهاد، سواء كان اعلاميا استطلاعيا، او نوستالجياً عاطفياً، بأن هذا المؤتمر ما زال محل متابعة، سواء عند مناصريه او المعترضين عليه، فيعتبره الاوائل بداية صحوة "لعروبة جديدة" اكثر ديموقراطية، اكثر واقعية، اكثر احتراما للخصوصيات على انواعها، وبالتالي اكثر قدرة على تجميع ابناء الوطن الكبير على تباين اقطارهم واعراقهم واجيالهم وافكارهم، فيما يرى فيه المعترضون محاولة يائسة "لاحياء العظام وهي رميم" دون ان يقدموا تفسيرا مقنعا لاستمرارية المؤتمر واتساع قاعدته طوال عقدين من الزمن، بل دون ان يشرحوا لنا لماذا كل هذا الاهتمام من قبلهم بالتهجم على المؤتمر، واعلان وفاته مع اعلان موت العروبة ذاتها، اذا كان المؤتمر فعلا امرا ميتا او شيئا من الماضي عديم الاثر كما يقولون.
ان مشكلة صيغة حوارية جامعة، كالمؤتمر القومي العربي ليست فقط مع المتوترين من وجوده، وهم ليسوا بقلائل وان كانوا يتناقصون مع الايام، بل ايضا مع بعض مناصريه وداعميه، وهم كثر ويتزايدون يوما بعد يوم، والذين يطلبون من المؤتمر ما هو فوق طاقته، وما هو خارج مهماته اصلا. فبعض الحزبيين السابقين والحاليين يريدونه حزبا يعوض عن خيباتهم الحزبية العديدة. وبعض المثقفين يريده اطارا فكريا نخبويا مجردا ومتحررا من ضغوط "الغوغاء" التي اسمها الشارع. وبعض العقائديين المتمترسين وراء "ايديولوجياتهم" يريدونه سجنا عقائديا جديدا، فيما يسعى المؤتمر لأن يكون حامل مشروع نهضوي حضاري يتلاقى حوله كل حاملي الايديولوجيات والعقائد النهضوية التي عرفتها المنطقة ليتحول مع الوقت الى مرجعية فكرية سياسية للأمة.
ورغم الاعتراضات المشحونة بالاتهامات القاسية، والخيبات المليئة بالتوتر، تمكن المؤتمر، على مدى عقدين، ان يشق طريقه بثبات، دون مفاجآت استثنائية، ولكن دون انهيارات وقع بها العديد من المثقفين والحركات والاحزاب. ولعل مفاجأة المؤتمر لنفسه ولأعضائه ولأبناء امته هو انه استمر رغم كل ما عصف بالمنطقة منذ تأسيسه عام 1990، من زلازل واعاصير وحروب وفتن، بل استمر ثابتا على مبادئه، واضحا في مواقفه، مبدئيا في تطلعاته، مما حماه وحصّنه من كثير من المطبات التي وقع بها آخرون حين فصلوا بين الفكر والسياسة، او بين الاهداف والوسائل او بين المبادىء والممارسات.
واذا كان لي ان ابدي رأيا في استمرار هذه التجربة وتوسعها، ما يقارب العقدين من الزمن، فانني اعزوها لأسباب ستة رئيسية:
السبب الاول: هو الاطار الديموقراطي الحواري الذي نجح المؤتمر في ترسيخ تقاليده، وفي تحويله الى ساحة نقاش موضوعي بين افكار وبرامج ورؤى واجيال وخصوصيات لا يمكن ان تتفاعل وتتلاقى الا اذا اعترف كل منها بحق الآخر في الاختلاف الفكري والسياسي.
ومن يشهد المناقشات في دورات المؤتمر ولجانه، وفي الحرص على تداول المسؤوليات فيه (خمسة امناء عامين في 18 سنة) يدرك تماما ان المؤتمر حرص على ان يكون اول دروسه المستفادة من تجربة الحركة القومية المعاصرة هو الامساك بالديموقراطية وحقوق الانسان وعدم مقايضتها بأي اهداف اخرى مهما كانت غالية، لأن هذا العنصر الرئيسي من عناصر المشروع النهضوي العربي الحضاري اي الديموقراطية، هو الضمانة لصون الوحدة، وطنية او قومية، ولانجاز الاستقلال، ولبناء التنمية، وتحقيق العدالة الاجتماعية وممارسة التجدد الحضاري، تماما مثلما يشكل التقدم على طريق اي هدف من اهداف المشروع ضمانة للأهداف الاخرى ودعما لتحقيقها.
السبب الثاني هو الحرص الثابت على استقلالية المؤتمر عن المنظومة الرسمية العربية، او عن اي من انظمتها، فلا تبعية او عداء، بل خطاب موضوعي رصين، لا يتهيب من رؤية الايجابي ولا يخشى نقد ما هو سلبي.
واذا كان البعض من خصوم المؤتمر يتعاملون مع مواقفه ومسيرته على طريقة "لا تقربوا الصلاة" فيجتزئون مواقف او ممارسات، ويقرأونها خارج سياقها وضوابطها واستدراكاتها، فان اقوى ردود المؤتمر على هذه الاتهامات هي مواقفه بالذات التي تجعل المتحاملين عليه ينتقلون من توجيه تهمة اليه الى توجيه نقيضها في وقت آخر.
السبب الثالث: هو النهج القومي الجامع الذي اعتمده المؤتمر عبر مسيرته، فهو اعاد تعريف "القومي العربي" تعريفا يخرجه من احتكار القوميين الكلاسيكيين ليجعله مفتوحا لكل ملتزم بالمشروع النهضوي الحضاري العربي بغض النظر عن خلفياته الايديولوجية، او مواقعه العقائدية، أو حتى عن انتمائه العرقي، فضم بالتالي في صفوفه اسلاميين فاعلين في أبرز الحركات الاسلامية، ويساريين بارزين في ابرز القوى والمنابر اليسارية، وشخصيات ليبرالية بارزة أثبتت التزامها الوطني والقومي ومناعتها في وجه "إغراءات" إدارة بوش وادعاءاتها الزائفة في احترام حقوق الانسان، تماماً كما ضم عرباً وأكراداً، امازيغيين وتركماناً، سودانيين جنوبيين، اعتبروا أنهم أبناء حضارة واحدة.
ولم يكتف المؤتمر بهذا النهج في صفوفه، القائم على التلاقي الواسع حول مشروع محدد للنهوض، بل سعى لإيجاد اطر تترجم هذا التلاقي عبر تشكيل مؤتمر قومي/ إسلامي (1994) تحول الى شقيق توأم للمؤتمر، شكلا معاً، ثم مع مؤتمر الاحزاب العربية ثلاثياً جامعاً واسعاً، يتعاظم دوره وتأثيره ونهجه في الحياة العربية.
أما السبب الرابع لاستمرار هذه التجربة فهي شفافيتها، التنظيمية والادارية والمالية، فلا أسرار في المؤتمر ولا خفايا ولا زوايا، فاجتماعاته علنية، وأمانته العامة معروفة، ومصادر تمويله المحدودة جداً معروفة ومكشوفة وخاضعة للتدقيق القانوني، وهي قائمة اساساً على اشتراكات الاعضاء وتبرعات الاصدقاء تعلن في جلسة مفتوحة أمام وسائل الاعلام الحاضرة أو التي يسمح القيمون عليها بأن تتابع أعمال المؤتمر وتغطيته.
وبالاضافة الى الاشتراكات والاعضاء، يبقى أن نشير الى أن الغالبية الساحقة تتحمل تكاليف السفر لحضور المؤتمر، واذا لم تتوافر الضيافة في بلد الانعقاد، وهي لم تتوافر الا مرات قليلة، فاعضاء المؤتمر يتحملون تكاليف الاقامة ايضاً.
السبب الخامس لاستمرارية المؤتمر وتوسعه يكمن في ارتكازه الى مجموعة من مراكز الابحاث والدراسات والمؤسسات والمنابر الثقافية والعلمية والاعلامية المنتشرة على امتداد الوطن الكبير، وفي مقدمها "مركز دراسات الوحدة العربية"، الذي شكل بحق البنية الفكرية والعلمية للحركة القومية المعاصرة.
إن هذا التفاعل بين الأضلع التي يرتكز عليها أي فعل جاد، أي بين الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة والاعلام والتربية، هو الذي يمنح هذا الفعل جديته وجدته وتجدده ويحول دون سقوطه في الركود والتكرار والتعفن.
السبب السادس لنجاح المؤتمر في تعميق مكانته واتساع دوره في الحياة العربية هو، أن المؤتمر جمع في إطلالاته ومواقفه بين الفكر والسياسة، وبينهما وبين النضال عبر رموزه الموزعة في غالبية مواقع العمل السياسي والحزبي والنقابي والثقافي والاعلامي ومنابره مما عرضهم لحملات واتهامات وملاحقات متعددة الشكل والاسلوب.
فموقف المؤتمر المبدئي والواضح من قضية المقاومة في الأمة، سواء في فلسطين أو العراق أو لبنان، وأخيراً في الصومال، جعله محط احترام الكثيرين الذين سجلوا للمؤتمر عدم وقوعه في فيروس ازدواجية المواقف (كما قال الدكتور خير الدين حسيب في افتتاح أعمال المؤتمر العربي العام في 30/3/2006)، فلم يتحمس لمقاومة هنا أكثر من حماسته لمقاومة هناك، وقد بادر اعضاؤه في كل الساحات، لاسيما الأمناء العامين، في إطلاق تحركات شعبية كبرى مساندة لكل حركات المقاومة في الأمة، ولعل دور أعضائه، وأعضاء المؤتمرات الشقيقة، في إطلاق التحركات الشعبية العربية من موريتانيا الى اليمن إبان عدوان تموز، وانتصاراً للبنان المقاوم، كان جلياً واضحاً لكل متابع، تماماً مثلما كان دور أعضائه ايضاً محورياً في مسيرات رفض الحرب على العراق وخارجه، وقبل ذلك دورهم في تحريك الهبّة الشعبية العربية دعماً لانتفاضة الأقصى المباركة.
وكذلك كان واضحاً موقف المؤتمر من قضية الديموقراطية وحقوق الانسان، حيث بعض أعضائه معتقلون في أكثر من سجن عربي، أو ممنوعون من السفر، أو مقيمون في المنفى، وقد كلفه ذلك ان أسيء فهمه في غير عاصمة عربية لأنه اصر على الدعوة الى الافراج عن معتقلين، أو الشروع بتحقيق انفراجات ديموقراطية وحوارات سياسية.
والفتنة، عرقية كانت أم طائفية أم مذهبية، لا مكان لها في إطار مؤتمر جامع لكل مكونات نسيج الوطن الكبير العرقية والدينية والمذهبية، بل ان المؤتمر بتركيبته ذاتها، وبخطابه القومي الوحدوي، هو في مواجهة مستمرة مع منطق الفتنة ولغتها ومفرداتها ومخاطرها.
وكلنا يذكر كيف أن المؤتمر نبه منذ اللحظات الاولى لاحتلال العراق من خطورة استحضار المصطلحات العرقية والطائفية والمذهبية، التي جرى الترويج لها مع دخول الاحتلال، والتي جرت ترجمتها الى محاصصات عرقية وطائفية في كل المؤسسات التي شكلها الاحتلال، لتتحول هذه المحاصصة بعد ذلك الى الحاضنة الرئيسية لمشروع الفتنة الذي يديره الاحتلال وأدواته في العراق بقصد تدمير هذا البلد العربي المهم بعد تفكيكه وتفتيته وتمزيق نسيجه الوطني وضرب هويته العربية الاسلامية.
والدور الوحدوي والتصالحي ذاته يسعى المؤتمر الى أن يلعبه في غير قطر عربي، وبين الاقطار العربية ذاتها، معتبراً انه إذا كان حجر الزاوية في المشروع الصهيو - اميركي هو التفتيت، فان حجر الزاوية في المشروع النهضوي العربي هو التوحيد، واذا كانت عناوين المشروع المضاد هي الاحتلال والاستبداد والتعصب والايقاع بين أبناء الشعب الواحد، ووقف عجلة التقدم والتحديث، فان آليات المواجهة تكمن في المقاومة، والمشاركة، والمراجعة، والمصالحة ومواكبة روح العصر.
إن هذه الاسباب الستة التي تقف وراء استمرار المؤتمر القومي العربي واتساعه، تقابلها في المقابل اسباب عديدة تشكل عوائق وحواجز في مسيرته، وثغرات وسلبيات في ادائه وبنيته، وغياب شخصيات مهمة عنه، وهذا ما نحتاج الى مناقشته في مقالة أخرى، مع حرصنا الدائم على ان يبقى لدى المؤتمر، بكل اعضائه والقيمين عليه، استعداد، بل وحماسة، للانفتاح على كل نقد موضوعي، ولإجراء كل مراجعة مطلوبة.
*(رئيس الدورة الأخيرة للمؤتمر القومي العربي في البحرين)
تعليقات: