بناية أيوب في عين المريسة (بلال قبلان)
انتهاء مفعول قانون الإيجارات الاستثنائي.. والقضاة يتريثون في دعاوى الاسترداد..
لم تشأ مصاعب الحياة مفارقة الحاجة حنيفة الرشيدي حتى في عقدها الثامن من العمر. تخطت العديد من الأزمات العائلية والشخصية، لكن القدر أراد اختبارها مرة جديدة. ها هي تتحضر لترك المنزل الذي عاشت فيه منذ خمسين عاماً.
لم تستعد بنت طرابلس العزباء لمواجهة هذا الامتحان في ربيعها الثامن والسبعين. فاجأها قرار صاحب ملك بناية الحلبي في شارع محمد الحوت في رأس النبع، بطلب استرداد الشقة التي استأجرتها عائلتها منذ عام ,1958 آتية من عاصمة الشمال، بحجة إعادة البناء.
«لا أعرف ما الذي سأقوم به حين يصدر القرار»، تقول الحاجة حنيفة بأسى، التي تنتظر قرار المحكمة حول قيمة التعويض لإخلاء سكنها. أمام ارتفاع قيمة الإيجارات، فتصعب الخيارات. فهي كانت تدفع 461 ألف ليرة سنوياً كبدل إيجار، أما اليوم فيصعب عليها إيجاد شقة بالقيمة ذاتها في الشهر الواحد.
في الواقع، تتزايد منذ سنتين تقريباً حالات استرداد الشقق السكنية المستأجرة ضمن إطار قانون الإيجارات الاستثنائي. لقد أصبحت قيمة التعويضات والاستثمار مجدداً في المباني مغرية لأصحاب الملك، نتيجة ارتفاع أسعار العقارات والشقق السكنية بشكل كبير مؤخراً. زاد سعر متر البناء في منطقة رأس النبع على سبيل المثال أكثر من 50 في المئة خلال أشهر قليلة، حيث كان يتراوح بين 800 دولار بداية عام ,2007 ليتخطى الـ1200 دولار في منتصف العام.
لقد عانت الحاجة حنيفة الأمرين لتتمكن من نقل عقد الإيجار باسمها بعد وفاة والديها وأخيها عبد الرؤوف. استقرت في النهاية وحدها في الشقة. لم تعطها الحياة الفرصة لتجد شريكها وسندها. عملت في مجال الخياطة لتكسب رزقها، لكن عملها بدأ بالتراجع في التسعينيات، قبل أن يتوقف بشكل شبه نهائي في بداية القرن الحالي، نتيجة حادث سير تعرضت له، حرمها إمكانية الاستمرار في الحياكة في سنها المتقدم. مع ذلك، لم تتأخر مرة بدفع إيجارها.
خلال الحرب الأهلية، اضطرت للتنقل بين منازل الأصدقاء، لفترات بسيطة، كون رأس النبع كانت منطقة تماس، لكنها لم تهجر بيتها بشكل تام. اليوم، لا تتصور للحظة أنها تستطيع الإقامة في منطقة أخرى من بيروت غير رأس النبع. إلا أن المشكلة الاساسية تكمن بأحوالها المادية المتواضعة، وعدم وجود أي فرد من عائلتها يمكنه مساعدتها لتخطي أزمتها.
«أحتاج إلى ثمن شقة كتعويض» تعلق حنيفة عند سؤالها عما ستقوم به بعد صدور قرار المحكمة. في الحقيقة، لم تخطط الحاجة بشكل جدي حتى الآن لتلك المرحلة. جل ما تريده هو البقاء في المنطقة. عرض عليها محامي صاحب الملك تسوية عبارة عن تعويض بقيمة 20 ألف دولار، لكنها تركت المسألة للمحكمة، على أمل نيل مبلغ أكبر مما عرض عليها.
انتهاء مفعول القانون
أمام هذا الواقع، تحاول حنيفة كســب المزيد من الوقت قبل الامتحان العسير في حزيران، وهو موعد جلسة المحكمة. لكــن ما لا تعرفه الــحاجة والمســتأجرون الآخرون في البناية، أن صدور القــرار قد يطول أكثر.
ففي كانون الأول ,2006 انتهت فترة تمديد مفعول قانون الإيجارات الاستثنائي ولم يجتمع مجلس النواب لتجديده، علماً أن هذا القانون يسمح باستمرار مفاعيل عقود الإيجارات القديمة غير المحددة بزمن كعقود الاستثمار.
وعلمت «السفير» أن القضاة يتريثون في إصدار قرارهم في دعاوى الاسترداد، إلى حين تجديد القانون المذكور، مما يعني أن صاحب الملك لن يتمكن من استرداد مبناه إلا في حال قام بتسوية «حبيّة» مع جميع المستأجرين. يعطي هذا الواقع أفضلية للمستأجر في المفاوضات حول قيمة التعويض، في ظل غياب أي مؤشرات على التئام مجلس النواب في المدى المنظور.
ولكن بعض الأوساط المطلعة تتخوف من استغلال أصحاب الملك هذا الواقع لإخلاء المستأجرين من دون أي تعويض، لاسيما في حال مخالفة هؤلاء لبند الموجبات والعقود، وإن كان القضاة ما زالوا يتريثون في إصدار القرارات.
بناية أيوب
قصة أخرى تنذر بنهاية عقود الإيجارات القديمة في ظل ارتفاع أسعار الوحدات السكنية. في العام ,1983 شهدت بناية أيوب في عين المريسة انفجارا كبيرا استهدف أحد أعضاء حزب الاتحاد العربي الاشتراكي، مما أدى إلى أضرار جسيمة في المبنى. غاب صاحب الملك عن السمع بعدها، وترك أعمال الترميم والتصليحات على عاتق المستأجرين الذين حصلوا من المحكمة على حق إصلاح الأضرار والسكن.
تمكنت عائلة غازي منصور من تخطي هذه الأزمة، بعد ست سنوات على انتقالها إلى شقة في المبنى عام ,1977 علماً أنه تعرض أيضاً إلى قصف مباشر خلال الاجتياح الإسرائيلي عام ,1982 بعد اغتيال الرئيس بشير الجميل.
«قمنا بكل ما يلزم لتعود الشقة قابلة للحياة. دفعنا يومها عشرين ألف ليرة لإتمام التصليحات» تقول منى زوجة غازي. كما تستذكر أن مياه الدولة انقطعت عن المبنى بسبب غياب صاحب الملك المسؤول عن تسديد بدلات الاشتراك حسب العقد الموقع، فقام المستأجرون بحفر بئر لتأمين حاجاتهم من المياه، واضطروا للتأقلم مع نسبة الكلس المرتفعة فيها.
فجأة وبعد 25 عاماً على انقطاع أخبارهم، عاد أصحاب الملك إلى السمع منذ سنة، حيث رفع الأخوان عمر وتوفيق أيوب (أردنيان من أصل فلسطيني) دعوى على المستأجرين غير المقيمين في شققهم وتمكنوا من استردادها. ومنذ أقل من شهر، تبلغ باقي المستأجرين دعوى استرداد رفعها الأخوان أيوب، بحجة التهبيط وإعادة البناء.
لا تخفى الدوافع على أحد. ارتفاع سعر العقارات والبناء على الواجهة البحرية أصبح محفزاً للاستثمار، مهما علت كلفته. سعر متر البناء في المنطقة لن يقل عن 15 ألف دولار في المستقبل القريب.
تختلف قصة غازي ومنى منصور عن الحاجة حنيفة. الأخيرة تكافح مادياً لتأمين لقمة العيش، أما عائلة منصور فتنتمي إلى الطبقة الوسطى. هي اليوم مهددة بالتراجع درجة على السلم الاجتماعي، مهما كانت قيمة التعويض الذي ستناله.
غازي ومنى ينتميان إلى طائفتين مختلفتين، هو من مواليد البترون في الشمال، وهي من قضاء الشوف في جبل لبنان. تناسبت الخلفية الاجتماعية لعين المريسة مع انتمائهما الطائفي، واستقر الزوجان في المنطقة ورزقا بولدين.
«لا يمكننا أن نعيش في منطقة ذات لون طائفي واحد» تقول منى مؤكدة انها تفضل البقاء في رأس بيروت، «ولكن لا يبدو أن قدراتنا المادية ستسمح لنا بذلك». لن تقل كلفة أي وحدة سكنية بحجم شقة العائلة (155 متراً مربعاً) في المنطقة عن 350 ألف دولار.
«هذا المبلغ يفوق قدرتنا» تعلق منى، علماً أن الزوجين اللذين يعملان في قطاع التعليم، مستعدين لاستئجار شقة أصغر في المنطقة بسعر مناسب، ولكن يصعب إيجاد ما يناسب ميزانيتهما. «يبدو أننا سنتقاعد ونعود إلى البترون» تقول منى، فهي ترفض فكرة إمضاء فترة تقاعدها في منطقة أخرى من بيروت لا تناسب تطلعاتها الاجتماعية. وتختم منى بالقول: «لقد علّمنا ولدينا في أفضل المدارس والجامعات، وها نحن نقترب من فترة التقاعد دون أن نجازى براحة البال المجزية».
هناك مئات دعاوى الاسترداد عالقة في المحاكم بانتظار تمديد قانون الإيجارات الاستثنائي. تقلصت وتيرتها هذا العام، حسب مصادر مطلعة، لكن زخم ارتفاع أسعار البناء ينبئ بنهاية مرحلة من عقود الإيجار التي سمحت للعديد من أسر العاصمة الصمود أمام الأزمات المعيشية.
بناية الحلبي في رأس النبع
تعليقات: