الضمان الاجتماعي يترنّح


لحظة مصيرية للبنانيين: الضمان الاجتماعي يترنّح

أطلق النائب زياد أسود إخباراً للنيابة العامة، يطالب بموجبه بإحالة مجموعة من المدراء المسؤولين في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي إلى القضاء، من المدير العام محمد كركي وصولاً إلى المدراء المسؤولين عن الماليّة والإدارة، مستنداً إلى تقرير صادر عن رئيس اللجنة الفنيّة لإثبات وجود حالات من التزوير في المؤسسة. هذا الإخبار تزامن – وللصدفة! - مع زيارة قام بها وزير العمل كميل أبو سليمان إلى المقر المركزي للضمان، قبل يوم واحد، قابل خلالها الوزير المدير العام نفسه، للتداول في تحسين أداء الضمان، وانتظام العمل المؤسساتي فيه.

المنازعة السياسية

كل هذه الأحداث تعيد تسليط الضوء على حالة هذه المؤسسة، مع التصارع السياسي الحاد، الذي يرافق اليوم عودة الحديث عن انتخاب مجلس إدارة جديد للضمان، بعد أن أطاحت الخلافات السياسيّة بانتخاباته في بداية السنة الماضية. مع العلم أنّ أكثر من عشر سنوات مضت على انتهاء ولاية المجلس الحالي، من دون أن يتم انتخاب مجلس جديد، بسبب مناكفات أحزاب السلطة على الحصص في مجلس الإدارة.

واليوم، بين نفوذ حركة أمل، الأقوى في الصندوق، والهيئات الناخبة لمجلس إدارته، وتطلّع التيّار الوطني الحر وغيره من القوى السياسيّة إلى مراكز النفوذ فيه، ينتظر الصندوق اكتمال التوافق السياسي حول الصيغة الجديدة لمجلس إدارته. وبالتوازي، مع المفاوضات المتعلّقة بذلك، تستعر الحملات المتبادلة حول الفساد داخل إدارة الصندوق، والأشخاص المتورّطين فيه، من دون أن يلامس الحديث المخاطر الفعليّة، التي تهدّد بقسوة استمراريّة عمل هذه المؤسسة والخدمات التي تقدّمها.

ديون بذمّة الدولة

بين عامي 2014 و2017، وحسب بيانات اللجنة الفنيّة في الضمان، ارتفعت مستحقّات الضمان الإجتماعي التي بذمّة الدولة من 833 مليون دولار إلى مليار و456 مليون دولار، خلال أربع سنوات فقط، لم تسدد خلالها الدولة سوى 46 مليون دولار من المستحقّات للضمان. وإذا أخذنا بالإعتبار المستحقّات المذكورة للضمان في موازنة 2018، وهي بقيمة 248 مليون دولار، ترتفع مديونيّة الدولة للصندوق لغاية مليار 704 مليون دولار. وعمليّاً، تكون الدولة قد ضاعفت مديونيّتها لصالح الضمان الإجتماعي خلال خمسة سنوات فقط، جرّاء التخلّف عن سداد المستحقّات السنويّة.

تشكّل هذه المبالغ مساهمات الدولة في تقديمات مختلفة، بالإضافة إلى الفوائد عن الديون السابقة والإشتراكات المتوجّبة عن أجرائها، وغيرها من المتوجّبات. وبينما تخلّفت الدولة عن الإيفاء بهذه الديون، خلّف هذا الأمر عجزاً في صناديق الضمان المختلفة، تم التعويض عنه بالإقتراض من الصندوق المخصص لتعويضات نهاية الخدمة. وهكذا، توسّع انكشاف صندوق تعويضات نهاية الخدمة على هذه الديون ومخاطرها، مع العلم أن هذا الصندوق يحتوي على تعويضات مدّخرة لتقاعد لما يقارب 480 ألف لبناني.

بالإضافة إلى ذلك، تنامت توظيفات الصندوق في سندات الخزينة اللبنانيّة. فحسب بيانات الصندوق، تتجاوز قيمة تعويضات المضمونين المتراكمة الموظّفة في سندات الخزينة 5,556 مليار ليرة لبنانيّة، مقابل 4,971 مليار ليرة موظّفة في المصارف الخاصّة، بينما هناك ما يقارب 473 مليار ليرة مودعة في مصرف لبنان أو مستعملة لإقراض صناديق المرض والأمومة. وتظهر هذه الأرقام بوضوح، تركّز هذه التوظيفات بالليرة اللبنانيّة، وفي الودائع وسندات الخزينة، بينما تم سابقاً إستبعاد - بقرار من السلطة السياسيّة- أي خيار لتنويع محفظة الاستثمارات، من خلال التوظيف بالذهب أو العملات الأجنبيّة مثلاً، لحماية أموال المضمونين من الخضّات الماليّة أو النقديّة المحليّة. مع العلم أنّ هذه النقطة تكتسب أهميّة استثنائيّة اليوم، في ظل الضغوط الماليّة التي تعيشها الدولة والاقتصاد عموماً.

خلل إداري

ثمّة مكامن لخلل إداري ساهمت في تراجع أداء المؤسسة، خلال الفترة الماضية، وتعريضها إلى مخاطر كبيرة، وأبرزها غياب أي تدقيق للحسابات الماليّة للضمان منذ سنة 2011. وبالإضافة إلى غياب التدقيق، لم تنجح محاولات مكننة الأعمال بشكل متكامل، عبر إدارات المؤسسة ومع المستشفيات والصيادلة والأطبّاء، وهو ما يستمر بإعاقة محاولات فرض رقابة شاملة على أعمال الصندوق، عبر مختلف مراحل العمليّات. وبينما من المفترض أن يدير المؤسسة 14 مديراً أصيلاً، لا يوجد اليوم أي مدير معيّن بالأصالة. إذ تقتصر إدارة المرفق على ثلاث مديرين معيّنين بالوكالة من قبل مجلس الإدارة، وأربعة مكلّفين بالقيام بأعمال المديرين من قبل المدير العام خلافاً للأصول "لسيير المرفق العام".

وإذا كان إعداد ومراقبة خطّة توظيفات الصندوق وإستثماراته، من مسؤوليّة اللجنة الماليّة في المؤسسة، فاللجنة هذه ما زالت تنتظر تعيينها حسب الأصول، مع عضوين في اللجنة الفنيّة. وهي مسألة مازالت بعيدة عن المدولات الحاليّة، التي تقتصر على تعيين مجلس الإدارة في المرحلة الأولى. كما يمتد الفراغ ليطال معظم إدارات الصندوق. إذ تبلغ نسبة الشغور في ملاك المؤسسة مستوى 52 في المئة، حسب الكتاب الذي وجّهه في 5 آذار الماضي نائب رئيس مجلس الإدارة، غازي يحيى، إلى وزير العمل، والذي حثّه فيه على "إنقاذ الضمان الإجتماعي وتأمين ديمومته".

ضرورة الإنقاذ

تتخطّى أزمة الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي مسألة الأزمات، التي تعاني منها تقليديّاً الإدارات الرسميّة، بفعل المناكفات السياسيّة والإهمال الرسمي. فالمؤسسة تتمتّع بخصوصيّة وحساسيّة فائفة. إذ يعتمد عليها بالكامل مئات آلاف اللبنانيين، سواء لجهة تكاليف الطبابة والأمومة، أو الإدخار للتقاعد لاحقاً، وهو ما يجعل من إنقاذها مسألة مصيريّة بالنسبة للأمن الإجتماعي في البلاد.

وبوجود كل الإهمال الرسمي بحق هذه المؤسسة، وفي ظل الأزمة الماليّة الخانقة واحتمالات الانهيار، الذي يكثر الحديث عنه كل يوم، يصبح من الضروري التفكير في سبل حماية هذا الصندوق، من مكامل الخلل القائمة فيه أوّلاً، ومن مخاطر الظروف الماليّة والاقتصاديّة في البلاد ثانياً.

تعليقات: