ناصر قنديل
في لقاء ضمّ أكثر من دزينة من الزملاء في هيئة تحرير البناء قدّم وزير المال علي حسن خليل تصوره للوضع المالي للدولة قبل أسبوع بالتمام والكمال، والأمانة تقتضي أن نشهد لما قاله بعدما نسبت إليه مواقف، بعضها سمعناه يفنّدها ويرفضها، وبعضها سمعناه يحذّر من المبالغة في تبني البعض لها، وكلها لم تكن ضمن الرؤية التي شرحها وفصل في بنودها وعرض أرقامها، والحق يقال، بصورة لا تترك مجالاً للبس أو وهم، للحديث عن غموض أو قطب مخفية أو تشابه المعاني والأسماء، فقد كان وزير المال ممتلئ الذاكرة بالتفاصيل، متمكناً من وافر المعلومات التي يستند إليها في التحاليل، مفاجئاً في حجم إمساكه بملف المالية العامة للدولة، وتفاصيل تشريحه لمصادر الخلل الاقتصادي والمالي والنقدي والفروق بينها، التي لا يعرف تمييزها الدقيق صعوداً وهبوطاً إلا الخبراء الضليعون في ملفات الاقتصاد والمال والنقد.
– الأكيد أن ما قيل عن تبني وزير المال لتخفيضات على الرواتب، محض افتراء، وأن الحديث عن وجود فريق يضم رئيس الحكومة والتيار الوطني الحر وحركة أمل، مقابل فريق يضم حزب الله والحزب التقدمي الاشتراكي، تجاه الإجراءات المالية وفي قلبها ملف رواتب القطاع العام، تزيين وتشويه، لأفرقاء وأفرقاء. فقد أسهب وزير المال في حديثه معنا على رسم خط أحمر حول من يتقاضون دخلاً دون الثلاثة ملايين ليرة شهرياً، كتدبير احتياطي يتمسك به وتتمسك به حركة أمل فيما لو تقرر السير بالدخول على بعض رواتب وتعويضات بعض مراتب ورتب القطاع العام، بحيث لا تطال فئة ما دون الثلاثة ملايين أي تخفيضات، على الإطلاق، علماً أن المشروع لا يزال مرفوضاً من الوزارة وحركة أمل، أو على الأقل هو ليس مشروعهما، لكنه مطروح وقيد النقاش، ولذلك وضعت الوزارة والحركة خطهما الأحمر حول فئة دخل الملايين الثلاثة منعا لللإقتراب منها ومن مداخيلها كشرط لقبول النقاش حول ما تبقى.
– ما فهمناه من وزير المال كان واضحاً، في شأن الرواتب والتعويضات، أهمه أن ما قبل هذا البند بنود يجب استنفاد التصحيح والإصلاح فيها، أهمها الضريبة التصاعدية على دخل الشركات التي تزيد أرباحها عن المئتين وخمسين مليون ليرة شهرياً بما فيها المصارف، وبل والمصارف خصوصاً، وثانيها أرباح مصرف لبنان وفوائد الدين، وثالثها بعد عجز الكهرباء أغلب موازنات الإيجارات والعلاقات العامة والسفر والنفقات المتفرقة في الوزارات والإدارات، ورابعها تعددية مصادر تضخم تعويضات كبار الموظفين من بدلات اللجان إلى البدلات الإضافية من عائدات بعض المؤسسات، إلى تقاضي رواتب من أكثر من جهة في الدولة، وما فهمناه أنه عندما يصير أمر الرواتب آخر الهوامش المطلوب الدخول عليها بمقص التشحيل فإن الخط الأحمر سيكون قوياً لحماية فئة الملايين الثلاثة، وسيكون للمقص وعليه قيود تحصر مجاله، برسم سقف لدخل الموظفين الكبار يمنع تخطيه ضعف أصل الراتب، ويحول دون تعويضات نهاية خدمة بمئات آلاف الدولارات، لا يتقاضاها حكماً ذوو الدخل المحدود، بل الذين يريدون الاحتماء بهم للدفاع عن مصالح سواهم من كبار متنفذي الوظائف العليا في الدولة.
– بصراحة يبدو أن هناك إلى جانب طبقة حاكمة تضم قرابة خمسة آلاف شخص يقف أغلبهم في صف الدفاع عن كبريات الشركات والمصارف، طبقة موظفين تضم خمسة آلاف شخص آخرين، تقف في صف التعمية والتورية والتمويه، لمنع المساس بكتلة دخل تشكل قرابة ربع أرقام كتلة الرواتب والتعويضات، ليس بينها على الإطلاق من يتقاضون أقل من ثلاثة ملايين ليرة شهرياً، تنشغل هذه الكتلة باستثارة عاصفة إعلامية تحت عنوان الدفاع عن مكتسبات القطاع العام، وهي تتغذّى من حملة تهرب جماعة المصارف والشركات الكبرى التي تريد تحقيق الوفر من جيوب الفقراء، وليس وزير المال من بين صفوفها كما هو واضح لنا، بلا لبس وبلا ريب، كما تتغذى من قلق مشروع لدى ذوي الدخل المحدود من استسهال الحاكمين للمساس بدخل البسطاء والضعفاء تجنباً لإثارة غضب الأقوياء، ومن خطابات مبالغ بها عن الحاجة للتقشف والتحذير من سقوط الهيكل على رؤوس الجميع، والأخطر التهويل بسعر الصرف، لابتزاز اللبنانيين.
– نشهد أن وزير المال كان صريحاً وواضحاً، بمقدار ما بدا متمكناً من ملفه المعقد، وأرقامه المتداخلة والمتشابكة، منتبهاً لشيطان التفاصيل، مدافعا عن منهج إصلاحي يعرف اليساريون القدامى والجدد، انه كان حلماً لمشروعهم قبل أن تعصف الحرب بلبنان في مطلع السبعينيات، وتبدو القوى التي يحلو لبقايا اليسار تسميتها بالرجعية، أكثر وفاء وإخلاصاً لها وللطبقات الشعبية الضعيفة التي قام اليسار على لحم أكتافها، فصارت تكيل الكيد بديلاً لتلاوة فعل الندامة، وتعبيراً عن عقدة الذنب أو عقدة النقص، كما كان الحال مع تقدم القوى الجديدة لخيار المقاومة الذي غادره اليسار طوعاً وصار يبحث عن ذرائع الاتهام بالمصادرة والاستفراد.
* المصدر: البناء
تعليقات: