أمام الأخطار التي تهدّد المصير الوطني مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي في ظل احتدام الانقسامات حول هوية الرئيس العتيد السياسية، بتّ أتساءل: هل هناك ما يبرّر التفريط بالمصير الوطني على مذبح قضايا الخلاف السياسي مهما بلغت من الأهمية في تقدير هذا الفريق أو ذاك؟
أنا شخصياً من أصحاب الرأي حيال ما يواجه البلاد من قضايا تشكّل محاور خلاف مستحكم بين مختلف القوى اللبنانية، لكنني مع ذلك لا أتردّد في القول: إذا كان المصير الوطني سيُصان بخسارتي القضية التي أؤمن وأنادي بها على الصعيد السياسي، فلا كان انتصار ولا كانت قضية. إنني بكل تأكيد أُوْثر أن أكون من الخاسرين سياسياً إذا كان الثمن إنقاذ وطن، وتحديداً عبر الحفاظ على الوحدة الوطنية.
إنني سياسياً ألتزم خط الدعوة إلى التوافق المسبق حول شخص الرئيس العتيد بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد. فإن لم يكن الانتخاب منطلقاً من التوافق، فإن الرئيس المقبل سيكون محوراً لانقسام متجدّد بين القوى السياسية، وستكون المعارضة له في منتهى الشراسة، الأمر الذي سيؤول إلى استمرار حالة الشلل في الحكم واستمرار انكشاف الساحة الداخلية على المؤثرات الخارجية من كل جانب، وبالتالي استمرار حالة انعدام الاستقرار الداخلي على كل صعيد وتفاقم الخطر الذي يتهدد وحدة المجتمع والوطن ومن ثم وجودهما، وكذلك استمرار التدهور في الوضعين الاقتصادي والمعيشي.
القضية ما كانت ولن تكون: مَن ينتصر على مَن في الساحة السياسية الداخلية. بل القضية هي الوحدة الوطنية، وبالتالي وجود لبنان الوطن وعافيته. لذا أقول: مرحباً بهزيمتي السياسية إذا كان فيها منجاة للمجتمع والوطن. ثم كيف تكون الديموقراطية، إذا كنا حقاً نطمح إلى توطيد أركانها في بلدنا، والديموقراطية إنما هي سجال متواصل بين قوى متعارضة، ينتصر فيه بطبيعة الحال أناس ويخسر فيه أناس آخرون يومياً. كيف يمكن لأطراف متعارضين في المواقف والرؤى والمشاريع أن ينتصروا جميعاً؟ فإذا كان نصيبنا الخسارة من أجل سلامة المصير الوطني، فيجب أن نرى في خسارتنا انتصاراً.
الانتصار الكبير لا يكون في خسارتنا أو في خسارة سوانا من الأطراف اللبنانيين، بل يكون بالتلاقي حول مواقف مشتركة، أي عبر التوافق حول قضايا الخلاف، خصوصاً إذا كان المصير في الميزان. والقضية المحورية حالياً هي الاستحقاق الرئاسي. الانتصار يكون بالتوافق حول هوية الرئيس العتيد. والهوية في هذا النطاق لا تقتصر على اسم المرشح العتيد، بل تعني أيضاً توجهاته والتزاماته الوطنية، حتى لا نقول السياسية والفكرية والقومية. ففي لبنان يستحيل فصل الوطني عن القومي على الرغم من مكابرة بعض المكابرين الذين يرون خلاف ذلك في عدائهم لكل ما هو قومي. وهوية الرئيس العتيد تعني أيضاً بالضرورة مزاياه الخلقية والاجتماعية في عصر استشرى فيه الفساد واستفحلت فيه الوصولية والانهزامية والنفعيّة، وندرت فيه النزاهة والعفة والتجرّد والموضوعية.
تجارب لبنان حافلة بالأزمات الوطنية المتعاقبة منذ الاستقلال. وبعد أزمة عاصفة ودامية استعرت خلال العام 1958 على خلفية نزاع إقليمي، كان المغفور له الرئيس صائب سلام هو الذي أطلق شعار «لا غالب ولا مغلوب»، ليغدو هذا الشعار وصفة الحل لأي أزمة وطنية تنشب بعد ذلك في هذا البلد الذي كانت الفئوية على أشكالها ولا تزال تمزّقه. إنها وصفة الحل التي لا بديل لها. مع ذلك ما زالت في منزلة الدرس الذي لم يتعلّمه اللبنانيون. ففي كل أزمة تعصف بالبلاد يسعى كل فريق عبثاً إلى إلغاء الآخر، حتى يدرك الجميع، بعد لأي، أنه لا متّسع في حياتنا العامة لغالب ومغلوب، فتُعقد التسوية. هكذا كان الأمر على امتداد الأزمة الوطنية الكبرى التي استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً. وها نحن اليوم نعيش أزمة وطنية مستحكمة منذ عام ,2004 وهي مستمرة ما دام كل فريق يسعى عبثاً إلى إلغاء الآخر.
هنا أيضاً، كما سبق وقلنا: مرحباً بالخسارة من أجل أن يبقى لبنان واحداً موحداً ومستقراً. ونردف القول: إذا كان قدرنا أن يلغي أحدنا الآخر، فمرحباً بأن نكون الضحية.
قد يقول قائل إن ما ندعو إليه هو الانهزامية بعينها. إذا كان هذا ما نسمي التضحية بالذات من أجل الوطن، فماذا نسمي التضحية بالوطن من أجل الذات، أو من أجل تحقيق مآرب سياسية آنية عابرة؟ هل يليق وصفها بالخيانة؟ وقانا الله شر الاختيار بين الانهزامية والخيانة. ولكن إذا وجب الاختيار فما أحلى الانهزامية.
لو كان في لبنان الحد الأدنى من الحياة الديموقراطية لما طُرحت أيّ من هذه المسائل. في تلك الحال تأتي المعالجات والحلول عبر المؤسسات الدستورية معبّرة عن إرادة الشعب الحرة. لكن النظام في لبنان يفتقر إلى القدر الحيوي من الديموقراطية، وأنا أردّد القول إن في لبنان كثيراً من الحرية وإنما قليل من الديموقراطية. ونحن اللبنانيين لم نتصرّف يوماً، ولا نتصرّف اليوم، كشعب وإنما كقبائل. وقبائل العصر تُسمى طوائف. فكما لكل قبيلة شيخها، فلكل مجموعة طائفية في لبنان زعيمها يتحدث باسمها، ويقرّر مصيرها، ويتصرّف كأن الجمع ليس جمهوراً بل هو قطيع.
إن كنا في حاجة إلى الإصلاح في حياتنا العامة، فتنمية الديموقراطية، نظاماً وثقافة، يجب أن تكون مرسى أي مشروع إصلاحي جدي.
مرة أخرى نقول، وقانا الله شرّ الاختيار بين الانهزامية والخيانة.
تعليقات: