لبنان العنصري المقيت


حقيقة أن العبودية التي لا تزال تمارس على نطاق واسع في بلاد الـ«كَم أرزة» لم تكن خافية على أحد. تقارير صادرة عن منظمات دولية ومحلية، وتحقيقات صحافية وأفلام وثائقية كشفت جميعها هول ما يرتكب بحق من جارت عليه الأقدار مرتين: مرة عندما غادر بلاده المنكوبة بالجوع أو الحرب، ومرة ثانية حين انتهى به التيه الى أن تطأ قدماه أرض كونفدرالية الطوائف العنصرية والفاسدة. نحن بلد عنصري. من يزعم عكس ذلك كاذب أو نعامة تدفن رأسها في الرمال. بعض اللبنانيين، عادة أكثرهم جهلاً وبلاهة، يعلن بفخر أنه عنصري ويتصرف على هذا الأساس. لكن بعضا آخر، أكثر دهاءً و«شطارة»، عنصري «خجول»، يمارس العنصرية من دون تبنّيها علناً. فالعنصرية ليست مجرد أفكار أو مشاعر تجاه «الآخر»: هي أيديولوجيا، وممارسة ملازمة لها، ولدت موجتها الحديثة مع التوسع الاستعماري الغربي لتبريره، تفترض وجود تراتبية بين البشر وتسوّغ سيطرة من هم في أعلى هرمها المتخيل على مصائر وثروات من هم في أدناه. الوظيفة الفعلية للعنصرية هي شرعنة الاستغلال المتعدد الأوجه والظلم. يقع لبنان في جنوب العالم وهو عانى والمنطقة العربية التي ينتمي إليها من ويلات السياسات الاستعمارية ومن تداعياتها، لكن قطاعاً واسعاً وعابراً للطوائف من اللبنانيين لا يزال يعتقد بأن لبنان جزء من الغرب أو على الأقل «جسر بين الغرب والشرق»، أي في الواقع، معبر لمرور أسوأ ما في الغرب الى الشرق. وقد أخذ هؤلاء بالفعل أسوأ ما أنتجه الغرب، أي عنصريته، بصيغتها الأكثر فجاجة. فعنصريتهم الفجة كانت ستعتبر جريمة بنظر قوانين الغرب اليوم. هم في الواقع ورثة عقلية المستعمرين البيض الذين غزوا مختلف بقاع المعمورة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولا يزالون ينظرون الى العالم بعيونهم. التمييز الممأسس بحق العمال والعاملات الأجانب في لبنان والاستغلال البدائي الذين يتعرضون له نتاج مباشر لذلك. فلولا العنصرية السائدة في أوساط واسعة من الرأي العام والنخب السياسية والثقافية وفي المؤسسات الدينية المختلفة، لأثارت المظالم المفجعة التي تقع عليهم ردود أفعال واحتجاجات وضغوطاً كفيلة بفضحها ووقفها.

مثال جديد على هذه العنصرية الممأسسة هو قيام بلدية فاريا بتعليق لافتة كتب عليها: «يمنع تجول وتواجد العمال الأجانب وعائلاتهم على أوتوستراد فاريا ليلاً نهاراً». سبق لبلديات أخرى في مناطق مختلفة أن رفعت لافتات عار شبيهة، لكن الجديد مع بلدية فاريا هو إضافة العائلات الى العمال وسريان منع الوجود والتجول في الليل والنهار. خلق العبد ليخدم ويكدّ لا ليتجول بعيداً عن نظر سيده. هذا هو منطق اللافتة وأصحابها. طبعاً، مجرد السعي الى الحوار مع أمثال هؤلاء هو تنازل معيب. المطلوب هو فضحهم وإدانتهم ومقاضاتهم إن كان الأمر ممكناً. غياب ردود الفعل من قبل القوى التي تدافع عن قضايا التحرر الوطني والعدالة فضيحة أخلاقية وسياسية. لبنان الذي تمارس فيه العبودية وأبشع أشكال الاستغلال والاستباحة للأفقر والأضعف هو قطعاً غير لبنان الذي نريد والذي حلم به آلاف المقاومين والشهداء. سكوتنا عن العنصرية والاستعباد سيكون وصمة عار على جبيننا. على الجميع أن يعلم، وأولهم ضحايا العنصرية، أن لبنانهم العنصري المقيت ليس لبناننا.

تعليقات: