نايفة نجار ونجلها علي رضيعاً (أرشيف العائلة)
24 عاماً مرت على غياب ام فقدت الامل بعودة وحيدها المخطوف. هنا استعادة لما كان مع نايفة نجار، التي لم تحتمل اختطاف ابنها منها، فانتحرت قبل 24 عاما...
نايفة نجار زميلة وابنة اسرة «السفير». هي عينة ليس إلا. هناك الآلاف من الأهالي الذين تشبه سيرتهم سيرتها أو العكس ومن المؤكد أن هناك نماذج أكثر ايلاما ووجعا، ولكننا اخترنا نايفة، كونها تختزل مأساة عائلة اختفت بين والد يغرق في بحر الخليج وهو يبحث عن لقمة عيش لأسرته وولد وحيد تخطفه الأيدي الحاقدة ووالدة وحيدة تنهي حياتها بالانتحار...
الاحداث تعود الى فترة الحرب الاهلية في الثمانينيات. وليس القتل وحده كان عنوان المواجهات. شريعة الخطف ايضاً كانت مستحكمة، وربما هي اكثر ايلاماً، لأن جرحها ما زال مفتوحاً ومشرّعاً حتى اليوم امام اجتهادات المصير.
كانت نايفة تزهو وتفتخر بابنها علي حمادة كلما كبر قليلاً امام عينيها. كان «رجلها» الوحيد بعدما قضى والده عدنان غرقاً في مياه الخليج في ابو ظبي حين كان عمر علي تسعة اشهر.
راقبت نايفة بفرح علامات الرجولة التي بدأت تظهر على ملامح الفتى مع بلوغه سن الثالثة عشرة. وفجأة، ذات يوم من شهر آذار خُطف علي ولم يعد!
علي ذو القلب العليل منذ الولادة، كانت تخاف امه عليه كثيراً، وتكثر من مراجعة الطبيب للاطمئنان عليه. وكانت تريده رجلاً. جعلته يتخذ قراراته بنفسه. سألته بشأن ذهابه الى بيت جده في القماطية لإمضاء عطلة الربيع فوافق. في نهاية عطلته، ويوم عودته اتصل بها. قال انه يحمل لها هدية، في مناسبة عيد الام. «ما هي» سألته. «خليها مفاجأة»، اجاب.
انتظرت ابنها وانتظرت هديته. لكنه لم يأت.
انه 26 آذار العام ,1984 اليوم الذي كانت جريدة «السفير» تحتفل فيه بعيدها العاشر. «قلقانة عالصبي» عبارة رددتها نايفة مراراً وهي تقوم بواجباتها الادارية في الجريدة. قلقها كان في محله. ابنـها استــقل سيــارة برفقة شاب يدعى هشام ناصر الدين الذي قيل انه اختطف بسبب تشابه في الاسماء بينه وبين احد القياديين الحزبيين المعروفين، بحسب رواية بعض اهالي البلدة، او لوجـود مشاكل بينه وبين احد الاحزاب تبعاً لرواية اخرى. يومها اختطف 13 شخصاً من بلدة القماطية.
رحلة البحث بدأت باتصالات قامت بها اسرة «السفير» على مدى اسبوعين. افضت نتيجتها الى معرفة أن علي قتل. احتفظ الزملاء بالخبر بعيداً عن مسامع الام القلقة.
بعدها قررت نايفة ان تخوض غمار البحث بنفسها، فاتصلت برؤساء احزاب ومسؤولين وصولاً الى رئيس الجمهورية، ولكن من دون جدوى. لم تترك باباً الا وطرقته، تدهورت صحتها، ضمر وزنها، راحت تكتب له رسائل في الجريدة، حتى انها طبعت مناشير وراحت ترميها في «بيروت الشرقية» كتبت عليها «أعيدوا إليّ وحيدي».
لم تكن تتصور ابنها في غرفة التعذيب وهو الذي يشكو من قلبه. في مرة وهي تشاهد آثار التعذيب على ظهر احد المخطوفين المحررين، ممن قصدوا الجريدة آنذاك، انهارت تماماً. وحين هدأت، سألت الرجل عن وجود فتى محتجز، وعما اذا كان يطــلب دواء للـقلب.
بعدها رددت امام زميلتها انها تنوي الانتحار. ويقال بأنها عرضت نفسها على احد الاحزاب للقيام بعملية انتحارية، لكنها لم تلق تجاوباً.
بعد تسعة اشهر على اختطافه، انتحرت. هي كل ما استطاعته الأم من فراق.
في 26 كانون الاول العام 1984 قالت لأمها: «ديري بالك على العيلة وعلى حالك» كمن يودعها وصيته الاخيرة. وفي المساء دخلت الحمام وراحت تتجرع الديمول على دفعات، وتمسح فمها وتضع العطر بعد كل جرعة للتمويه. وبعيد الجرعة الثالثة استأذنت للنوم. وعندما تنبه افراد عائلتها للأمر، كان موتها اسرع من الطريق الى مستشفى الساحل.
تركت نايفة نجار خلفها اوجاع الكثيرين من امهات وآباء المخطوفين وأهاليهم. تركت قضية ما زالت عالقة في عهدة المسؤولين، ومعلقة معها آمال العديد من المصابين بفقدان الاختطاف. قضية لا تموت مع طي صفحة الحرب، ولا تلتئم جراحاتها لمجرد وضعها في ادراج الاهمال الرسمي. نايفة نجار تركت ايضاً شيئاً آخر ليكون شاهداً على معاناتها، ولعله ايضاً تعبير عن امل بقي فيه رمق أخير بعودة وحيدها يوماً.. تركت في درج مكتبها رسالة الى ابنها علي. في كلماتها اليه، بقيت امه تنتظره، حتى بعد انتحارها.
كتبت:
«غدا يا ولدي إذا عدت، ستجد سفينتي قد أبحرت الى شاطئ النهاية. ستتساءل عن سرعة الرحيل لكنك ستعذرني. غدا يا ولدي إذا عدت ستجد انني سئمت الانتظار ولا خبر منك ولا علم (...) غدا يا ولدي اذا عدت، ستشق طريقك في الحياة وحيدا. تتابع السير كما شببت وكانت ترعاك أمك. تنسى الحقد الضغين الذي سببه لك ضعفاء النفوس الجلادون. إنسَ يا ولدي. أرجوك ان تنسى هذه المدة الزمنية التي منعت فيها من متابعة حياتك التي تعودت.. عد الى انسانيتك (...) أتمنى ألا يكونوا قد زرعوا فيك نبتة الشر.. انزعها يا ولدي. أقلعها من جذورها وأرجعها فهي لهم وليست لنا (...) غدا يا ولدي إذا عدت. إقرأ كلماتي هذه وتذكر وصايا أمك».
تعليقات: