متى يقتنع المسؤولون في هذا البلد أنهم ما عادوا قادرين على صمّ آذانهم؟ مارسوا هذه الهواية السيئة على مدى 20 عاماً. أغلقوا عقولهم في وجه اقتراحات، بالعشرات، كان يمكن أن تجنّب وطننا الكارثة. أنصتوا فقط لخبراء البلاط. أحدٌ منهم لم يُعر اهتماماً لكل التحذيرات من انفلات عجز الموازنة، حتى بات مزمناً بقيمة تتراوح بين ستة وعشرة مليارات دولار سنويّاً. اقتصاد ومصارف ومجتمع عاشت جميعها، على مدى عقدين من الزمن، على نظام الريع، إلى أن اكتشف الجميع، فجأة، أنّ عوائد البنوك كلها ما كانت سوى أرباح دفترية من المصرف المركزي، وأنّ الودائع وفوائدها لم تكن سوى أرقام على ورق.
استفاقوا على حقيقة أن ما انفق خلال تلك الفترة عمليّاً لم يكن سوى الدولارات الحقيقيّة التي استجلبوها من الخارج بإغراءات متعددة. هي الدولارات نفسها، ثمرة عرق جبين المقيمين والمغتربين، التي موّلت المصارف منها القطاع الخاص (بنحو 55 مليار دولار)، وما فاض منها (حوالى 120 ملياراً) أنفقَه البنك المركزي، على مجالات تخرج عادة عن النمط المتعارف عليه لنشاط مصرف من هذا النوع: 1) تمويل المصارف المتعثرة من دون معاقبة أي من القيّمين عليها أو حتى استملاك حصة منها نتيجة زيادة رأس المال. 2) تشجيع الاستثمار من خلال تمويل الشركات المتوسطة والصغيرة في إجراء استفاد منه أصحاب المصالح والنفوذ. 3) تمويل القطاع العقاري بفوائد منخفضة، علماً بأنه ليس مجال عمله. 4) تمويل الشركات الجديدة ذات المخاطر العالية (قطاع المعرفة)، وهذا أيضاً خارج نطاق عمله. كلها نشاطات استنفدت أغلب الودائع التي أودعتها المصارف التجارية فيه.
يدّعي حاكم مصرف لبنان أنّ لديه، في محفظته، 30 مليار دولار جاهزة للتصرف. كان ذلك مقبولاً، ولو شكلاً، إلى أن جاء استنجاد الرئيس سعد الحريري بالدول الصديقة والحليفة من أجل تقديم المساعدة لضمان استمرار تزوّد لبنان بالمواد الغذائية، وهو ما سارعَت أنقرة ودبي إلى الإعلان عن استعدادها للاستجابة له. مُناشدة تضع علامات استفهام على ما يسمّى احتياطاً (وهو عمليّاً ما تبقى من ودائع في البنك المركزي). من لديه 30 مليار دولار لا يكون أمنه الغذائي في خطر، على الأقل لستة أشهر مقبلة. وبالتالي، يكون الطلب من الحليف والصديق، إن حصل، تأمين السيولة للمالية العامة للدولة.
أمّا وقد وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، فلا بد من تشخيص المرض بدقة لتحديد العلاج المناسب. مشكلتنا لم تعد عجز الموازنة، ولا ضخامة الدين ووطأة خدمته. معضلتنا في هذه اللحظة أنّ رأسمال المصارف المقدّر بنحو 24 مليار دولار، ومعه الودائع المقدرة بنحو 170 مليار دولار، ليست سوى أرقام دفترية، مجرد قيود مسجلة لدى المصرف المركزي، وليست أموالاً حقيقية. تأكيد المصارف التزامها بسداد الودائع لا يغيّر من الأمر شيئاً. كميّة الدولارات الحقيقيّة المتوافرة في لبنان باتت شحيحة، لدرجة أنّ بعض المصارف لم تعد تسمح للمودعين بسحب أكثر من 200 دولار اسبوعياً، بل بعضها حدّد الرقم بـ100 دولار.
ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنّ إعلان حالة الطوارئ المالية بات واجباً. ليس من أجل السيطرة على النفقات وزيادة الواردات من خلال الإجراءات الإصلاحية التي سبق اقتراحها، ولا من أجل إعادة هيكلة الدين العام لتخفيض كلفة خدمته وتقليص فوائده على الدولة اللبنانية. الأولويّة الأولى اليوم، التي لا يتقدمها أي شيء آخر، باتت محصورة بإعادة رسملة القطاع المصرفي، حجر الزاوية لأي اقتصاد في العالم، وذلك عبر الإجراءات التالية:
أ) دمج المصارف اللبنانية في 6 إلى 7 مصارف كبرى (Mega Banks).
ب) أن يحصل ذلك برأسمال جديد يقدر بحوالى 20 مليار دولار.
ت) يتم جمع الرأسمال بآليات تقليديّة، على أسس تجاريّة وربحيّة.
ث) إعتماد مبدأ «الهندسة التحويلية»، عبر إعطاء المودعين الحق بتحويل جزء من الودائع إلى حصص عبر شراء أسهم بأسعار تفصيليّة عن تلك التي تعطى للمستثمر.
خطوة من هذا النوع، إذا تمّت بجديّة وبشفافيّة، لا بد أن تعيد الثقة إلى النظام المصرفي، فيطمئن المودعين إلى أموالهم، وينخفض بالتالي مستوى السحوبات اليومية من خارج الروتين الطبيعي. ناهيك عن أنها تدفع باتجاه إعادة تحريك الدورة الاقتصادية، التي لا يمكن أن تعمل من دون مصارف، تسلّف المؤسسات الصناعية والتجارية، وتؤمن الاعتمادات لاستيراد المواد الأولية والبضائع، فتعود الحركة المالية، ويباشر المدينون في تسديد ديونهم، وتستأنف المؤسسات دفع رواتب موظفيها وعمالها.
عندها يجري الانتقال إلى المرحلة الثانية، بإعادة هيكلة الدين، لتخفيف عبئه على الدولة، من 6 مليارات إلى حوالى ملياري دولار، مع ربط سعر الصرف بالفوائد، بحيث لا يتجاوز الفارق بين الفوائد على الدولار والليرة النصف نقطة، أسوة بدول أخرى، ما يؤدي تدريجاً إلى اختفاء عجز الموازنة التي لا شك انها ستسجّل فائضاً مع اعتماد الإجراءات الإصلاحية التي سبق الحديث عنها مرات ومرات. على ألّا يتم إغفال ضرورة فرض إجراءات قانونية للسيطرة على حركة الرساميل (capital control) المطبّق اليوم استنسابياً من دون أي سند قانوني، معرّضاً المصارف لدعاوى قانونية وغرامات.
الحديث ليس عن أمور تعجيزيّة، بل إجراءات تقنيّة يمكن تطبيقها خلال أشهر، في حال صحا ضمير المسؤولين وأدركوا أن ممارساتهم الحالية لم تعد مجدية. لبنان في حاجة لولادة جديدة، في جمهورية جديدة لا مكان لنظام المحاصصة فيها. حان الوقت ليفهم الجميع أن لبنان ليس قطعة جبنة يتوزّعها من نصّبوا أنفسهم آلهة عليه، وأنّ رفاهية الشعب اللبناني ورخاءه أهم من كل الأحزاب التي تختلف في السياسة وتتفق على توزيع تقسيم المغانم.
واذا ما استمرت ممارسة نظام المحاصصة، فستهدر الـ٢٠ مليار دولار الجديدة، كما هدرت كل الاموال الوافدة الى لبنان خلال الـ٢٠ سنة الماضية، ونعود ساعتها لننصح، كما نصحنا سابقاً، انّ الأفضل حينها أن لا تأتي.
تعليقات: