يُمارس المسؤول في لبنان سلطته السياسية ضمن النطاق الذي يُدّر عليه المال والنفوذ، ويُجنّبه في الوقتِ عينه تطبيق الواجبات المفروضة قانونًا عليه والتي تُحمِّله "مسؤوليّة" الخيارات التي يتّخذها ضمن السلطات المُناطة به.
إذًا صفة المسؤولية مفقودة في "القاموسِ السياسي"، وهي وإن ذُكِرَت تأتي متشعِّبة الهدف، منها اضاعة البوصلة كما الهدف لمحاسبة المرتكبين والمتورطين.
وأمام مشهدِ "استخراجِ الملفات القضائية"، من "قُعرِ" ادراجِ قصورِ العدلِ والمحاكمِ، في زمنِ "ثورة تشرين"، لا بدّ من اعادة كلمة "مسؤولية" الى قاموسِ السلطة وتطبيقها على ملفات الفساد المتشعبة والمتراكمة.
وهنا، من المفيدِ تحرّك القضاء بصورةٍ عاجلةٍ لفتحِ ملف "البنى التحتية" في لبنان وسحب ملف "المحاكمات" عن مواقع التواصل الاجتماعي ووضعه ضمن اطار قانوني مُنظَّم يُحَدِّد مسؤولية الجهات المعنية.
لا شكَّ، بأنّ السيولَ التي تضرب عند "أول شتوة" المناطق اللبنانية وتجرف معها كلّ ما يُعيق طريقها، تكشف الخلل الفاضح في ادارة الدولة التي تتحمَّل مسؤولية تطبيق القانون كونها المرجعية العليا لادارة المال العام والحفاظ عليه.
حيث أنّ المطلوب من الدولة ممثلةً بالسلطتَيْن التشريعية والتنفيذية، مساءلة الوزارات المعنية عن الاسباب التي منعتها من الاحتكام الى البند الجزائي المُفترَض أن يكونَ مذكورًا في العقودِ الموقَّعةِ مع المتعهدين الذين التزموا مشروعًا محددًا ضمن مناقصةٍ عموميةٍ، في حال أخلت الشركة في تعهدها، وهذا الاجراء يمكن للادارة اللجوء اليه من دون الاحتكام الى القضاء.
كما أنّ مسؤولية الادارة تُحتِّم عليها مراقبة تنفيذِ المشاريع عبر "الاستشاري" الذي التزم أيضًا الاشراف على الشركةِ المتعهِّدة، وأيّ خلل من قبل الشركة من المُفترَض أن يجري الكشف عليه من قبل المراقب وأن يتحمَّل مسؤولية قراره وتجري محاسبته.
هي أمورٌ أساسيّةٌ في تسيير المرفق العام وتجنيب الاخطاء عند التزام أي مشروعٍ، إلّا أنّ الفسادَ المستشري في ادارات الدولة، يسمح لهذه الوظائف، أن تكون "مزراب ذهب" يدرّ على الموظف الملايين، في بلدِ الانتماءات الطائفيّة والحزبيّة، ومن هنا تتحمَّل الدولة الجزء الكبير من المسؤولية لأنها لم تضع ضوابط رادعة لـ"شهية" المتعهد، بل سمحت للمتواطئين في اداراتها من هدر المال العام بصورةٍ عشوائيّةٍ ومنظمةٍ.
الدولة التي "غطت" فساد اداراتها، مسؤولةٌ أيضًا عن البناءِ العشوائي في المناطق ولاسيّما بيروت، حيث سَمَحَ غياب "التنظيم المدني" لمئاتِ المشاريع السكنية بالبناءِ بصورةٍ عشوائيّةٍ من دون الرجوعِ الى الضوابطِ القانونيّة، فأكلَ "الاسمنت" المساحات الحرجيّة ومعها فقدنا قدرة تخزين المياه التي طافت على الساحل، وساهم المواطن بزيادة منسوبها، من خلال رمي جميع انواع النفايات داخل "ريغارات التصريف".
وللتذكير، قبل سنواتٍ، طافت منطقة ضبية بمياهِ الأمطار وتبيَّن لوزير الأشغال يومها غازي العريضي، أنّ فرقَ الصيانة في الوزارة تمكَّنت من سحبِ بقرةٍ نافقةٍ في احدى الريغارات.
الامثلةُ، تطول ولاسيّما في مناطق الاوزاعي، حيث تبيَّن لرئيس اتحاد بلديات الضاحية محمد ضرغام، أنّ رميَ مخلفات سوقَيْ اللحامين والخضار في منطقة شاتيلا في مجاري التصريف، واغلاق "الريغارات" من قبل المواطنين بالسجادِ بهدفِ تغطية الروائحِ المنبعثة منها. عواملٌ أدَّت كلّها الى تشكّلِ السيول الجارفة في المنطقة والتي أخذت معها البشر والحجر.
وبالتالي، فإنّ تحميلَ المسؤولية فقط الى "جهاد العرب" في تلزيمات بلدية بيروت فيه بعضًا من "المغالاة" والتصويب على أشخاصٍ لتصفيةِ حساباتٍ محدّدةٍ في حين أنّ المطلوبَ وضع الجميع تحت المجهر ومحاسبة المتورطين، أما التصويب على متعهد لتبرئة جهات سياسية متورطة، فإنّه يضع أمامنا علامات استفهام عن الجهات المستفيدة من تضليل الرأي العام.
وأمام المسؤولية الجماعية التي تتحمَّل تبعاتها الدولة اللبنانية بالدرجة الاولى، تحرَّكت لجنة الاشغال العامة بصورةٍ "تقليديّةٍ" بعد كلّ "شتوةٍ" واتخذ اجتماعها صفة "العجلة والاستثناء" لمواكبة ما يحصل.
وبعيدًا من تصريحات الاعلام، أكّدَ رئيس اللجنة النائب نزيه نجم لـ"ليبانون ديبايت"، أنّ ما حصل في منطقة الاوزاعي ونفق المطار بات في عهدةِ القضاء الذي فَضَّل الابتعاد عن الاعلام لدرسه بسريّةٍ تامّةٍ وفق ما سَمِعَ من القاضي غسان الخوري.
ولكن يشكو نجم في الوقت نفسه، من البطءِ في حلِّ الملفات على المستوى القضائي وبإخلال الكتل النيابيّة في وعودها، إذ "يُدوَّن" في المحاضر شيء وعلى أرضِ الواقع يبدو المشهد مغايرًا.
وفي عزِّ "فورة" القضاء وثورته على الفسادِ، المطلوب من القضاة السير في ملف التعهدات وما يجري على "ضفافها" بعينٍ ثاقبةٍ تأخذ في الحسبان مسؤولية الدولة والمواطن كما المتعهد.
تعليقات: