تبقى المقاومة والمجاهدون الشرفاء الصفحة البيضاء في تاريخ أمّة تتخبط ولم تعثر على ذاتها بعد (هيثم الموسوي)
من يقلّب نظره في تاريخنا القريب والبعيد، يعثر على مأساة كُتبت فصولها بتداخل غريب أنتج تناقضات انعكست تشظّياً واضحاً على الشخصية العربية والإسلامية، فباتت مهزوزة غير منسجمة مع ذاتها تحيا في غربة لا أفق لنهايتها. التوجّه الأول في هذه المأساة المستمرة، هو تطرفٌ ديني، وصولاً الى الترهيب والقتل باسم الله، وهذا ما رأيناه مع «داعش» وإخوته، حيث الدم والخراب كلما كان غزيراً كان معبّراً أكثر عن الروح الفريدة التي تختصر بنظرها الحق، في دعاية يختلط فيها المذهبي مع السياسي المنفتح على لعبة الكبار في العالم من المستعمرين الجدد ومن المستكبرين والمتجبرين واستثماراتهم للشعارات.
فالقوة والبطش في نفسانية المتطرّف انعكاس لمخياله المريض، إذ يتوهم لبرهة أنه يبطش بيد الله وينطق باسمه ويدمر ويغتصب على اسمه، إنه إرضاء مرضي لنفسانيات لم تقوَ بعد على الاستجابة الواعية التي تحيي النفس وتجعلها أكثر مرونة في مسيرة الوجود.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} الأنفال: (24). فلا مؤمن ولا إيمان ولا إنسان، من دون إجابة واعية لكتاب الوجود كلّه على أساس تفتّح الذهنية والمدارك والمشاعر وتفجير الطاقات الإيجابية المتحركة، في أكثر من اتجاه، بما يجعل منه إنساناً متوازناً لا تنجرف به الأهواء ولا يغلق عليه التعصب والتطرف كل باب للحرية والتحرّر.
من هنا، فإن المشكلة تكمن في صوغ شخصية إيمانية رسالية خارج أسوار المذهبية الضيقة والسطحية، فأن تصنع اليوم هكذا شخصية أصعب بكثير من فتح قلب غير مؤمن أصلاً وعقله. في التوجه الأول نفسه، وموازاة له، يطالعك التوجّه الثاني وهو التديُّن السطحي، الذي لا تجذّر له وعمق يختصر بنظره كل الحق والحقيقة، إلى درجة ممارسة دور بشع في تهميش كل من يعارضه، أو تغييبهم عن الذاكرة بطريقة محترفة يتداخل فيها الحساب الشخصي مع السياسي، وما تجربة علي شريعتي ومحمد باقر الصدر ومحمد جواد مغنية وموسى الصدر ومحمد حسين فضل الله ببعيدة. إن هذا التوجه خطر جداً على الحياة، إذ يحيلها إلى ساحة لانفصاله ومخياله المرضي، وإلى مجال يتنفّس فيه عنترياته ويصفّي حساباته مع البعض الذي يحاول الخروج عن سربه، وهذا للأسف رأيناه في بعض التجارب الإسلامية الحزبية في لبنان والعراق وغيرهما، والتي تعيش روح الاستئثار وتضع الخطوط الوهمية هنا وهناك حتى وصل بها الأمر إلى التنافس الداخلي على مراكز القوى في إتيكيت جميل يعكس عقد النقص المتنوعة. وغالباً ما يمتاز هذا التوجه بخطاب ذي طابع إنشائي يعتمد الاجترار والتبرير ولا يقدم جديداً.
أما المقاومة والمجاهدون الشرفاء، فيبقون الصفحة البيضاء في تاريخ أمّة تتخبط ولم تعثر على ذاتها بعد. وهنا، الأجدر بالجميع، وخصوصاً من هم في موقع القرار والتأثير، أن لا يأكلوا جوّها وأن يعملوا على حمايتها، فهذا أقل الواجب الأخلاقي والإنساني. ولا يتم ذلك من دون حركة ثقافية توعوية للناشئة، عبر تغذيتهم بخطاب منفتح يعيدهم إلى الجدة والأصالة، وبناء الوعي المنسجم مع عصرهم وتطلعاتهم، وإلا سيزداد الواقع تردياً ونصبح كالبالونات، عند أقل حدث تنفجر.
لا يحمل كلامنا هذا حقداً أو تحاملاً على أحد، بقدر ما هو توصيف للحال بغية إعادة القراءة الجدية والموضوعية لواقع الأمة، وسد الثغرات ونقاط الضعف، وتنشيط دوائر التواصل وتفعيل النقد البنّاء وفتح مجالات التلاقي. وإلا ستصل الأمور إلى مزيد من الغربة والانفصال عن الذات والتراث وتفريغهما من كل قيمة. وبالتالي، تصبح بعض الجهات والأحزاب الإسلامية، وحتى الوطنية، خارج منطق التاريخ والزمن وعبئاً ثقيلاً على الرسالة السماوية المسيحية والإسلامية، من خلال ضيق آلياتها ومحدودية وعيها وصرامة تحزبها. فلا نريد لهؤلاء السقوط صرعى في لحظة، جرّاء ما تكسبه أيديهم وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
من هنا، نتمنى أن يعي القيّمون على الوسط الفكري والثقافي الحركي الإسلامي في لبنان والعراق وإيران، على مستوى الجامعات والحوزات العلمية والمؤسسات الحزبية، دقة المرحلة التي تتطلب إعادة نظر ومراجعة في آليات خطابها الفكري والتعبوي، بشكل لا تنقطع فيه عن أصولها الصافية، وفي الوقت ذاته تخلق أسلوباً جديداً ومفيداً، بعيداً عن الخشبية والنصية المنغلقة. إنّ ما نعانيه اليوم من جراء ذلك كبير، وقد أوقعنا في أزمات، حتى بات كثيرون ممّن هم في موقع المسؤولية يعيشون الحيرة وفقدان الإجابات الشافية على تساؤلات أولادهم. إنها بالدرجة الأولى، أزمة وعي وثقافة لا بد من تداركها وبسرعة.
صحيحٌ أننا نعاني من فقدان الأسماء والشخصيات الكبيرة والمبدعة، ولكن لا بد من ثورة ثقافية على الذات وإعادة بنائها وإحيائها، كمدخلية ضرورية للإبقاء على النبض الحي لقراءة كتاب الحياة وحسن التعامل مع الواقع وتحدياته. ويطالعك سؤال، هو هل إننا لا نزال نحيا في عقلية التخريب والتشويه لهذا الفكر أو ذاك من أجل التسلّط؟ هذا التسلّط الذي أكل ويأكل الكثير من ساحاتنا وماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ويستنزف قوانا ويعيّن المستعمر والمستكبر على النفاذ بسهولة إلى ديارنا للعبث فيها، ودائماً ما يدفع الإنسان المستضعف الثمن في كل ذلك.
إنَّ من أشد مظاهر الفساد فتكاً، تسلُّط النفس وحبّها للتملّك الأعمى والتسيّد، وصولاً إلى أنانية مفرطة تجري محاولة إشباعها، عبر التوجه الثالث وهو التنكُّر لكل ما هو ديني. بل عبر التحرّر من كل شيء حتى من الدين نفسه، من دون التمييز بين الجوهر والمظهر وإرضاءً لعبثية ولهوية تنتشر، يوماً بعد يوم، وقد زاد التطوّر التقني والفضاءات التواصلية من شياعها بين الكبار والصغار، كتعبير عن شخصية استقلاليه تُخفي تحتها أقنعة من الضعف والاهتزاز وعدم المصالحة مع الذات والتاريخ.
صحيحٌ أننا نعاني من فقدان الأسماء والشخصيات الكبيرة والمبدعة، ولكن لا بد من ثورة ثقافية على الذات وإعادة بنائها وإحيائها
التوجه الرابع، يمثّله المثقفون المستريحون من عناء العمل الواقعي والحركة النشطة فكرياً وثقافياً. إنهم فرسان الصالونات والمؤتمرات والندوات، التي تبحث عن تثبيت شهرتها ومصالحها وترفها، فهي لا تجدي شيئاً على مستوى الأثر الحياتي اليومي. إننا بحاجة إلى مفكّرين ومثقفين يعيدون تشكيل الوعي الفردي والجماعي، على أسس منفتحه وواقعية وعملية، وبوجه خاص في المجالَين الأخلاقي الروحي والفقهي المعاملاتي، بعيداً عن التنظير والتجريد واللغة الغيبية المنغلقة والمتخلفة؛ مثقّفون مخلصون مجاهدون حركيون متحسّسون للمسؤوليات.
هل كان علماؤنا يجلسون فقط في صالوناتهم، أو يطلقون الشعارات الجاهزة والمعلّبة؟ ليراجع أهل اليوم السيرة الحية والمشرقة والعملانية لرجال الفقه والأدب والشعر والفلسفة، وليتعلّموا منهم العفوية والبساطة والتناغم اليومي واللحظوي مع آمال وآلام مجتمعهم، من الشهيد الثاني العاملي والسيد محمد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة إلى الشيخ موسى شرارة إلى الإمام السيد محسن الأمين والسيد محمد باقر الصدر والسيد نجيب الدين فضل الله والإمام الخميني والإمام موسى الصدر والشيخ محمد جواد مغنية والشيخ العلايلي...
هذه التوجهات الأربعة، للأسف هي التي تحكم واقعنا، الذي ينشد توجهاً يحقق التوازن في الشخصية، ويخلِّصها من اهتزازها ويثبّتها عبر تعديل قواها الداخلية، وصولاً إلى تعديل زمانها الخارجي المكتظ بالأحداث. في النص الديني، الله والإنسان ليسا بعيدين عن بعضهما البعض {نحن أقرب إليه من حبل الوريد}، ولكن لكلّ منهما طبيعة جميلة متناغمة. صحيح أن الإنسان ناقص والله مطلق كامل، ولكن تجدّد الروح في الإنسان والفهم أيضاً، وتفاعلهما مع لغة الحياة والزمن، ينفي حاجز وهم الإنسان، وشعوره بنقصه أمام رفعة الله ودنوّه هو كمخلوق طيني. فهذا الشعور السلبي محبط، ويشل فعالية الآدمي، ويضعف حضوره في الكون وأمام خالقه، كما يجعل منه مقهوراً ومفعولاً به على الدوام، وتالياً تتناتشه العدمية القاتلة.
بناء على ما تقدم، فإن الهوية الإنسانية الواعية بذاتها لا تريد بلوغ التعادل أو التوازي بلا وعيها، على الرغم من أن ذلك ليس من مهامها، وليس أصلاً بوسعها، بل باستطاعتها بطريقة أخرى تشكيل وعيها وشحذه باستمرار للتفاعل الحي والتجدد والتناغم مع الله السرمدي. وهذا ما يُخرج الإنسان من ضيق حساباته وأوهامه التي يخترعها لنفسه، وتزيد من غفلته التي تقطعه نهائياً مع حوارية حضارية بين الإنسان وذاته، وصولاً إلى حوارية منتجة بين الإنسان والله، عبر كل استثارة وموقف ومناسبة ومظهر أو حدث.
ليس سوياً مواجهة الإنسان للخالق بنكران مطلق وعبثية، بل الأجدى إقامة حوار وانفتاح على زمان الله الأبدي الذي يرتفع بالإنسان ليريه صغائر ما يركض وراءه، وليصنع من زمانه زماناً إلهياً مشابهاً، يزرع فيه فعله الجدير بالاحترام من دون إكراه. فالله تعالى لا يريدنا عباداً منسحقين أمامه وأمام الآخرين والحياة، إذ إن هذا الأمر خلف إرادته التي تريد إنساناً حراً مريداً صاحب قرار ومبادرة، يصنع فعله الحر بذاته ولا تصنعه الظروف والبيئة.
إن اعتماد نمط من التفكير الديني، على أساس استثارة الصور والأفكار التي تحيل على اليأس وجلد الذات، وحصرها في الخطاب القاتم الذي لا يتعرّض البتة إلى ما في الحياة من صور إيجابية مشرقة متساوقة مع لحظات الإنسان وكدحه، في وجه الزمن وعتوّه، هو ما يترك ندوباً وجروحاً عميقه في نفسانيات الناس، ويجعلها مكبوتة ومشحونة قد تنفجر كوامنها في أية لحظة متمرّدة على واقع يثقلها، ولا يأخذ بيدها إلى ما تريده من غذاء روحي وفكري سليم وصحي ونافع.
هذا النمط السلبي، يتحوّل مع الوقت إلى تطرّف سياسي متكئ على تطرف أعمى للفهم الديني، وتالياً يأخذ التأويل مجاله، كما تتطلب النفوس العابثة اللعوبة. وكأنها تخلق إبداعاً وجدية من صحراء الموت والسوداوية والانغلاق، وتقع إذ ذاك في شباك الانفصام والاغتراب عن الحقيقة. فلماذا الإصرار على شلّ فعالية الإنسان، وقهره وسحقه ودفعه للعدمية تحت غطاء ممارسته لجلد الذات بغية إحيائها؟ وكأن النهوض لا يتم من دون هذا الجلد والتقوقع!
فلا هذا النهوض حصل، ولا هذا البعث من جديد ظهرت بوادره، وبقينا مسحوقين معتادين على ذلك مستسلمين لسياسة استعمارية فتحت شهيتها على المناطق المغلقة في مذهبياتنا وخلافاتنا، فعملت على تجيير كل ذلك في سبيل إماتة الشعور الديني المنشِّط للفكر، وتالياً أماتت كل فرصة للإحياء مع أنه ليس ذلك قدر أهل المشرق.
إنَّ من أشد مظاهر الفساد فتكاً تسلُّط النفس وحبّها للتملّك الأعمى والتسيّد، وصولاً إلى أنانية مفرطة
إن الإلحاد الحديث، قد يكون في بعض خلفياته وأسبابه العميقة تعبيراً عن خيلاء نفسية دفينة لحس المواجهة بين الإنسان، وما يسمى الإله، بغية خلق نوع من التوازن في مواجهة الزمن والفناء مع أن الإنسان دائم السعي من أجل بلوغ كمال لا يتوقف في لحظاته.
فالله، ليس الاعتراف به والدخول في جواب طاعته، طقسي ميكانيكي يفرغ من الحيوية والروح مع الوقت، إنه خلود يحاكي خلود كل طاقة ممكنة لدى الإنسان من أجل وعي الذات وصولاً إلى التوحيد الجامع لقواه في وجه عبثيته وتشتته، إنه توحيد يبدأ من الذات ويعود إليها في دورة لا تنقطع. أليس منطق التبرير والخضوع والتبعية العمياء لبعض الفهم الديني الغارق في التاريخ، هو انقلاب ناعم على ذات الإنسان وظلم بحقها ما بعده ظلم؟ إن الاستعمار والاستغلال والاحتكار، ليست فقط محصورة في الأشياء المادية، بل في أشكال الاستعمار الباطني الخفي. هو خوف الذات وقلقها من التنفس في الهواء الطلق، وربما هذا أخطر بكثير من مستعمر ظاهر ومعروف.
إن مهمة التحرّر من الداخل، صعبة ومعقدة نتيجة التراكمات المتنوعة في الشخصية، عبر تاريخها الطويل والصاخب، ولكنها ليست في الوقت ذاته مستحيلة إذا ما توافرت الأجواء الصحية التي تربي النفوس على قداسة العدل والرحمة وعلى ضرورة الوعي والتفكّر من أجل خلق جيل جدير بالتغيير والإصلاح، وإلا سنبقى في دوامة رفع الشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
إنَّ الإصلاح عملية تربوية ونفسية مستمرة، تبدأ من داخل الإنسان وتعود إليه، وليست تزييناً للمظاهر وحصراً بالمدنية والعمران. فكم من أمم وشعوب تغريك حياتها العمرانية والمدنية ولكنّها مخنوقة من داخلها؟ لقد وصلنا إلى مرحلة الاختناق في الشرق، ليس لأننا نموت جوعاً وحرماناً فحسب، بل لأننا أُفرغنا من قيمنا حيث تجمّدت عروقنا وتخدّرت عقولنا بخطابات خشبية فارغة جعلت من الدين حقاً أفيون الشعوب. فالثورة بوجه الفساد والفاسدين، من المفيد أن تصاحبها ثورة على الذات، كي تستعيد تحرّرها وكرامتها وتنتفض على أصحاب هذه الخطابات الفارغة كي تعود إلى رشدها.
* محمد عبد الله فضل الله - أكاديمي وحوزوي
تعليقات: