الى قائمة الشهداء العراقيين، نساء ورجالا، أضيف منذ ثلاثة أيام، الصحافي أحمد عبد الصمد وزميله المصور غالي التميمي، اغتيلا، كما بات متعارفا عليه، رسميا بالعراق «برصاص مسلحين مجهولين» فروا الى «جهات مجهولة». تؤكد هذه الصيغة الجاهزة المبتذلة، الاستهانة بأهم حقوق الإنسان وهو حق الحياة، بالإضافة الى حرية الرأي. وتهدد، بالنسبة إلى الصحافيين، جوهر عملهم، فضلا عن حياتهم. فمن من الصحافيين يجرؤ، في أجواء الترويع والتهديد على ذكر حقيقة ما يجري؟ كيف سيتمكن الصحافي، المستقل، من المحافظة على حياته، إذا ما قدم خبرا مغايرا للتصريحات الرسمية الجاهزة؟ ماذا حدث لـ «العملية السياسية» المُغلفة بورق حقوق الإنسان الصقيل؟ أم أن هناك تعريفا جديدا للصحافي وعمله لا يعرفه غير ساسة «العراق الجديد»؟
يدل استخدام الناطقين الرسميين باسم الحكومة هذه الصيغة على وجود توليفة من ساسة فاسدين وميليشيات ومرتزقة يستهدفون من يشاؤون، بحرية كبيرة، ولعلهم من القلة التي تتمتع بحرية الحركة والتعبير عن رأيها، عن طريق اغتيال من يتجاوز الخطوط الحمراء التي رسموها، خارج حدود القانون والدولة. وهي قلة تتمتع بالحصانة من العقاب بحكم كونها «مجهولة»، ولم يحدث وتم تقديم أي من أفرادها الى القضاء في ظل حكومات ودولة ما بعد الاحتلال. دولة بُنيت على « المجهولين» و»الأطراف» وأهمهم « الطرف الثالث». حيث اُستحدث مصطلح « الطرف الثالث»، منذ انتفاضة تشرين/أكتوبر، ليكون مشجبا تُعلق عليه مسؤولية جرائم الاغتيالات «المجهولة»، المتزايدة، خاصة بين العاملين في أجهزة الإعلام. فخلال شهرين، فقط، من بدء الانتفاضة وثقت « الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحافيين» تعرض نحو مئة صحافي للاعتداء والضرب، مع تحجيم ومهاجمة المؤسسات الإعلامية، وما تلاه من اختطاف واغتيالات تجاوزت الأربعين.
لقي الصحافي عبد الصمد والمصور غالي حتفهما عقب انتهائهما من تغطية الاحتجاجات وسط مدينة البصرة، جنوب العراق. وكان عبد الصمد قد فَنَد، في آخر تقرير له، « مجهولية» الاغتيالات وحالات الخطف واعتقال المتظاهرين، مُحملا الحكومة المسؤولية، مبينا أن هوية «المجهولين» معروفة لدى الحكومة. رشحته تغطيته للاحتجاجات الشعبية ووقوفه بجانب المتظاهرين، للتصفية السريعة على أيدي «المجهولين» من «الطرف الثالث»، لأنه تجاوز خطوطها الحمراء. «الخطوط الحمراء» التي رسمت للصحافيين والعاملين بأجهزة الاعلام، على اختلافها، لكيلا يتجاوزها أحدهم مؤكدا استقلاليته وقدرته على تقديم الحقيقة.
يستحق مصطلح «الخطوط الحمراء»، كما «المجهولين» والطرف الثالث»، أن يضاف الى إنجازات حكومات الاحتلال المتعاقبة. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2009، مثلا، حاول «مجهولون» اغتيال الصحافي عماد العبادي. شفى العبادي بعد أن تمكن أطباء في ميونيخ من إخراج ثلاث رصاصات من دماغه. عند عودته الى الناصرية، مدينته الواقعة جنوب العراق، رحب به الأصدقاء. كان من بينهم، ابن مدينته المطرب المعروف حسين نعمة، الذي صرح قائلا «نبهته أن يخفف من الكلام. هناك خطوط حمراء». لم يُعلق العبادي، يومها، بل فضل عدم الكلام. ولم يكن الصحافي جواد سعدون الدعمي من قناة البغدادية الفضائية، محظوظا مثل زميله، حيث اغتاله «مسلحون مجهولون»، وهو داخل سيارته في حي القادسية جنوب غربي بغداد، في 24 أيلول/ سبتمبر 2007.
إن رفض المنتفضين لكل من ساهم في الحكومات السابقة والحالية و»العملية السياسية» ليس دعوة إلى الانتقام بل إلى طموحهم في تحقيق تغيير حقيقي وبناء وطن دفع الشعب، ولايزال، ثمنه غاليا
يكاد لا يخلو عام من تقرير دولي يوصي « الحكومة» بحماية الصحافيين وتوفير الأجواء لممارسة عملهم. ففي عام 2013، أشار تقرير، أصدرته «لجنة حماية الصحافيين الدولية»، إلى تصدر العراق، قائمة الدول التي يفلت فيها قتلة الصحافيين من العقاب. وأكد التقرير إن المنظمات الإرهابية ليست المسؤولة الوحيدة عن قتل الصحافيين بل هناك «مسؤولون حكوميون وعصابات منظمة تقوم بقتل الصحافيين أيضاً انتقاماً منهم على عملهم، ودون أن يواجهوا العدالة».
وفي 2016، قُتل 13 صحافيا، معظمهم أثناء تغطية المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية، حسب الجمعية العراقية للدفاع عن حقوق الصحافيين، إلا أن 179 صحافيا تعرضوا لأنواع مختلفة من الاعتداءات من ضرب وتهديد بالقتل من «جهات مجهولة» على خلفية نشر تقارير صحافية عن الفساد في بعض مؤسسات الدولة. أما «إحصائية شهداء الصحافة العراقية» التي وثقت استهداف الصحافيين، منذ عام 2003 حتى 2016، فقد بينت أن عدد الضحايا الكلي هو 277 صحافياً ومساعداً إعلاميا منهم 22 صحافياً أجنبيا، و»أن الصحافي العراقي مستهدف من كل الأطراف المتنازعة دون استثناء».
إن أجواء الترويع المحيطة بعمل الصحافيين وتقييد حرية حركتهم، والتعبير عن آرائهم، وملاحقتهم بالإضافة إلى التصفية الجسدية، وإفلات مرتكبي الجرائم من العقاب، يزيد من اللجوء إلى القتل كأداة سهلة ومضمونة لكتم الأصوات المستقلة، وتحديد المعلومات المتوفرة للجمهور، ودفن الحقيقة مقابل إشاعة الأكاذيب وتضليل الناس.
وإذا كانت هذه هي معالم الصورة العامة منذ 16 عاما، فإن حملة القمع والاغتيالات ازدادت، بقوة، منذ انبثاق انتفاضة تشرين، بموازاة ازدياد الوعي لدى المنتفضين، بأن الحقوق لا يمكن نيلها لفرد دون غيره ولا لفئة دون غيرها، وإذا ما حدث ونالتها الفئة فأنها لن تكون صالحة، على المدى البعيد، لبناء وطن يتسع للجميع، مهما كانت أساليب الإغواء والابتزاز وشعبوية الخطاب. ان وصول المنتفضين الى هذه الحقيقة وتمسكهم بها، يُخيف أعضاء الحكومة والبرلمان والميليشيات الى أقصى حد، فهو يهدد مصالحهم الشخصية التي بنوها على حساب الوطن، كما يهدد كل أوهام الطائفية وصناعة الهويات الفرعية المزيفة، التي عملوا بجد على إشاعتها، لإبقاء المواطن جاهلا بحقوقه ووطنه وبناء مستقبله.
سيرورة الانتهاكات ومنهجية كتم الأصوات وحرمان المواطن من حقوقه، هي التي تدفع المنتفضين الى رفض إعادة تدوير الساسة، حتى من قدم استقالته من البرلمان، أيام الانتفاضة، بعد المشاركة في غنائم الاحتلال وجرائمه أو مسايرته مدة 16 عاما، شكاً بدوافعهم، مثل قصي السهيل (القيادي في حزب الدعوة الشيعي الذي «استقال» من ليرشحوه لرئاسة الوزراء كمستقل)، ورائد فهمي (سكرتير عام الحزب الشيوعي ، ومنذ ثلاثة أيام، أياد علاوي، رئيس وزراء أول حكومة عينها حاكم الاحتلال بول بريمر، اللذان لم يبدر منهما ما يدل على انتقالهما الى صف الشعب شهوداً، بما لديهم من وثائق ومعلومات. إن رفض المنتفضين لكل من ساهم في الحكومات السابقة والحالية و»العملية السياسية» ليس دعوة إلى الانتقام بل إلى طموحهم في تحقيق تغيير حقيقي وبناء وطن دفع الشعب، ولايزال، ثمنه غاليا.
* هيفاء زنكنة - كاتبة من العراق
* المصدر: القدس العربي
تعليقات: