مزارع لبناني يعمل في أرضه عند الحدود مع فلسطين المحتلة (حسن بحسون)
لا شك في أن الصورة تغيّرت بين ما قبل تموز 2006 وما بعده. سيارات المقاومة البيضاء «المدنية» لم تعد جزءاً من المشهد اليومي، بعد أن «استبدلت» بسيارات «اليونيفيل» البيضاء أيضاً، التي تحتل المشهد، حتى يكاد زائر القطاع الشرقي يعتقد أنه في ثكنة عسكرية لـ«قوات الطوارئ الدولية»
لم يعد الأمس شبيهاً باليوم على خطوط المواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في القطاع الشرقي من الجنوب اللبناني. بمجرد عبورك منطقة «جنوب النهر»، تصبح في ما يشبه ثكنة عسكرية كبيرة لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة «يونيفيل» والجيش اللبناني. لكن المفارقة أن هذه «الثكنة» تضم بعض المدنيين الجنوبيين الذين لا يزالون في قراهم، رغم استمرار غياب سياسات التنمية وانعدام المشاريع الإنتاجية التي تؤمن ظروف العيش في ذلك الشريط المحروم على تخوم فلسطين والجولان المحتلَّيْن،
الذي تغيّر كثيراً، سواء على مستوى القيم السياسية لأبناء المنطقة أو على مستوى الواقع الميداني. في الموضوع الأول تركت انقسامات الشارع اللبناني بين فريق داعم للمقاومة وفريق آخر يراها «ميليشيا» أثرها على أحاديث أبناء المنطقة، لا سيما «العرقوب» الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي، في سفوح جبل الشيخ وبعض قرى منطقة الوزاني. أما في الموضوع الثاني فقد أصبحت تحرّكات سيارات المقاومة «المدنية» التي كان معظمها باللون الأبيض (كما يردّد الأهالي) على غرار سيارات اليونيفيل، شبه معدومة، مع تأكيد الأهالي أن عناصر المقاومة لا يزالون موجودين وعلى أهبة الاستعداد «وهم يتحركون من دون أن يشتبه أحد من السكان أو القوى الأمنية بذلك».
على ضفاف الوزاني
في إحدى الاستراحات، على ضفاف الوزاني، التي لا يقصدها في هذه الأيام إلا المُتحرِّر من الخوف، يختلط صوت خرير المياه بهدير دبابات العدو وآلياته التي تجوب الشريط الحدودي «خوفاً من تسلل مقاومين». لكن مهمتها تتجاوز «الحماية» أحياناً، لتمثّل حالة من الرعب بالنسبة لأهالي المنطقة الذين يعتاش معظمهم من الزراعة. «منذ شهر تقريباً نزل الجنود إلى هذه الاستراحة، لكننا هربنا كي لا يعتقلوننا» يقول النادل السوري الذي يعمل بالقرب من «جولانه» المحتل. ويضيف صاحب الاستراحة «لم يقوموا بأي فعل ضدنا سوى اختراقهم الخط الأزرق وعودتهم إلى داخل المنطقة المحتلة». لكنه يستطرد «منذ مدة أطلقوا النار على بعض الرعاة هنا... الوضع ليس آمناً بسبب الخوف من اختراق صهيوني مفاجئ». العامل السوري، لدى سؤاله عن شعوره وهو ينظر إلى الجزء المحتل من بلاده، يقول «ليت الحدود تُفتح حتى نذهب إلى قريتنا. من هنا. نحن تواقون إلى مقاومة المحتل على طريقة حزب الله». ويضيف أن «الكثير من السوريين لديهم الحماسة لقتال إسرائيل... لكن ذلك بحاجة إلى قرار سياسي».
مقاومة سرية
ينفي أحد سكان الوزاني، النهر الذي ركّبت قوات الاحتلال منذ سنوات طويلة مضخّات لسرقة جزء من مياهه، وجود مظاهر لمقاومين في المنطقة. لكنه يؤكد أنّ تحركاتهم «أكثر سريّة مما نظن». ويشير إلى تعاون شبان تابعين لـ«جبهة العمل الإسلامي» بقيادة الشيخ فتحي يكن مع حزب الله في العمل المقاوم. لكن شاباً آخر مؤيداً للجماعة الإسلامية يقلل من أهمية هذا «الحكي» بالقول «عناصر جبهة العمل لا يمثّلون عددا كبيراً... نحن من نتعاون مع المقاومة ونحن أصل المقاومة».
يتطوّر النقاش ليدخل في زواريب السجالات السياسية اللبنانية، فيتصدىّ أحدهم من قرية عين عرب الواقعة قرب معسكر المجيدية الذي كان مخصصاً لتدريب عملاء إسرائيل متسائلاً «لماذا المقاومة؟ لقد دفعنا ثمناً كبيراً، ألا يكفي استمرارنا في خوض معركة الأمة جميعها؟». يتساءل هذا الشاب «إلى متى ستبقى المقاومة؟ هذه الأرض التي نشاهدها (مرتفعات الجولان ومزارع شبعا) هي لسوريا فليحرّروها هم... بدنا نعيش يا عمي».
ويثير شاب آخر إشكالية التعدّد المذهبي في الجنوب بقوله «الشيعة لا يريدوننا نحن السنّة أن نقاتل إسرائيل». يقاطعه رجل كبير السن بالقول «لكنهم أثبتوا أنّهم رجال... وهم يملكون الحيلة والخطة، لماذا نشكك بوطنيتهم. الواقع الديموغرافي في الجنوب يفرض أن يكون أبناء الطائفة الشيعية في وجه المدفع».
لكن رجا، اليساري الذي قاتل في صفوف جبهة المقاومة اللبنانية، يتمنّى لو كانت المقاومة شاملة «نحن من بدأ المقاومة وحزب الله أكملها. كلنا في خط واحد لكن إمكانات حزب الله أكبر بكثير من إمكاناتنا، وسوريا أخطأت حين حصرت دور المقاومة بهم بالتنسيق مع إيران»، مستنتجاً أن «هذه الهجمة الداخلية الشرسة ضد المقاومة ما كانت لتظهر بهذا الشكل لو أن الجميع شاركوا في غرفة عمليات مشتركة ضد إسرائيل».
فتح لاند
في الطريق إلى كفرشوبا تصادفك دوريات عديدة مؤللة للقوات الدولية، إسبان وهنود ودوريات أخرى للجيش اللبناني، في حين أن السيارات المدنية لا تظهر إلا نادراً.
هناك بالقرب من مزارع شبعا المسلوبة، وتحت أنظار المحتل في مواقع الرمثا والسماقة ورويسات العلم، يدور حديث خافت عن دور المقاومة والمتغيرات السياسية التي حصلت في لبنان خلال السنوات الأخيرة.
هنا كانت «فتح لاند»، ومن هنا انطلق العمل الفلسطيني المقاوم. لم يحل انتماء جميع أبناء البلدة للمذهب السنّي دون تعاون بعضهم مع عناصر حزب الله الشيعي. بل ذهب بعضهم أبعد من ذلك بانخراطه في صفوف الحزب على طريقة «التشيُّع السياسي»، بينما اعتنق آخرون المذهب الشيعي من ناحية «عقائدية وتعبدية»، حسبما يقول أبو بلال المناضل اليساري السابق الذي يعمل «في خندق واحد مع المقاومة الإسلامية».
يصف أبو بلال واقع كفرشوبا ومنطقة العرقوب بكثير من التفاؤل «ليس لأهل الصحوة خبز لدينا (يقصد جماعة 14 شباط)».
يؤكد ابن كفرشوبا الذي لم تنجح إغراءات أموال «الحريرية وجماعات الصحوة» ومساعداتها في تغيير مبادئ من نشأوا على حب المقاومة. «إن هناك قيماً لا تزال راسخة في ضمير الناس الذين دفعوا الكثير من أجل الكرامة الوطنية ومن أجل قضية فلسطين». يضيف مواطن من بلدة شبعا المجاورة «آسف لما يحصل في شبعا (التي شهدت سقوط أول شهيد لبناني من أجل فلسطين، الأخضر العربي في عام 1969) فقد سار بعض الناس خلف رائحة الأموال والغرائز المذهبية، ونسوا قضية مزارعهم».
يحدّث رئيس بلدية كفرشوبا عزت القادري عن وئام يلف القرية التي دفعت العديد من الشهداء منذ نشوء قضية فلسطين. «هناك صور للشهيد رفيق الحريري وشعارات لتيار المستقبل، ونحن لا مانع لدينا من تعليقها، فالكل أحرار هنا في التعبير عن آرائهم». يؤكد القادري، الذي يؤيد استمرار المقاومة ويتمتع بتاريخ نضالي طويل بدأ مع حركة القوميين العرب واستمر مع المنظمات اليسارية، أن لا خوف على كفرشوبا من السقوط في نيران الفتنة «الكلّ متفق على عدم الانجرار إلى فتنة بين أنصار المقاومة المعارضة وأنصار 14 آذار». ويشير إلى أن الأزمة السياسية في البلاد انعكست على وضع المنطقة بشكل مباشر لقربها من الجبهة مع إسرائيل، لكنه يؤكد وعي الجميع لعدم الوقوع في فتنة بين أبناء البلدة».
لا أحد يصادر المقاومة
الوضع في الهبارية ربما ليس مشابهاً تماماً لكفرشوبا. ثمة نشاط للجماعة الإسلامية في هذه القرية كباقي قرى العرقوب الأخرى. «الجماعة شاركت إلى جانب حزب الله في المقاومة خلال سنوات الاحتلال وخلال حرب تموز» حسبما يقول الشيخ حسين. ويضيف «قد نختلف مع حزب الله في السياسة الداخلية، لكن مشروع المقاومة هو مشروع الأمة، ولا أحد يستطيع أن يصادره لا تحت شعار «بدنا نعيش» أو غيره».
يضيف رئيس البلدية السابق شوقي يوسف أن بعض الناس «ينجرّون إلى حيث يريد الإسرائيليون، فيقعون في فخّ السجال السياسي والمذهبي». يؤكد يوسف بكلام هادئ أن «ما يربطنا بحزب الله أكثر مما يربطنا بتيار المستقبل... أهمه مشروع المقاومة والهم الإسلامي المشترك».
من المؤكد أن الجدل بشأن مشروعية المقاومة قد أصبح وجبة يومية في نقاشات أهل القطاع الشرقي، حيث يعيش لبنانيون من مختلف الطوائف والمذاهب. ومن الواضح أن تحوّلات المشهد السياسي قد تركت أثرها سلباً على الواقع السجالي السائد بين أبناء المنطقة. منهم من بقي محافظاً على قيم النضال الوطني والقومي، وبعضهم أصبح ضد مبدأ المقاومة، مشيراً إلى أن التحرير لا يكون إلا دبلوماسياً، والبعض الآخر ينتظر سوريا لتُحرّك جبهة الجولان، «حتى لا نبقى وحدنا في الميدان».
«بازيللا» أبو شهاب والخط الازرق
في آخر تعديل على الخط الأزرق في بلدة العباسية، أعادت قوات الأمم المتحدة رسمه بطريقة جرى خلالها قضم المزيد من الأراضي اللبنانية.الطريف في الأمر أن ابو شهاب، وهو أحد ابناء العباسية، كان قد زرع حقلا صغيراً من البازيلاء ووضع أقفاص خاصة بتربية النحل بالقرب من الحدود. لكن الرسم الجديد للحدود صادر نحلات ابو شهاب ونصف حقل البازيلاء، بحيث أصبح الوصول اليها متعذراً ويحتاج الى قرار دولي. بل أصبح الوصول اليها عرضة للقنص من مواقع الاحتلال المقابلة، حيث تُسيّر دوريات مؤللة على مدار الساعة.
الخط الأزرق هو الخط الفاصل الذي رسمته الأمم المتحدة بين لبنان من جهة وإسرائيل وهضبة الجولان المحتلة من جهة أخرى في 7 حزيران عام 2000. وهو يمرّ على جبل السماق وشمالي قمة جبل روس حيث يبقى معظم منطقة مزارع شبعا جنوبا له. ويقطع "الخط الازرق" قرية الغجر السورية في وسطها ويقسمها الى شطرين: شمالي يقع تحت السيطرة اللبنانية، وجنوبي يقع تحت الاحتلال الاسرائيلي. ويحيط سياج بالقرية من جهة هضبة الجولان وفيه ثلاث بوابات هي عبارة عن حواجز عسكرية اسرائيلية فيما القرية مفتوحة من الناحية الشمالية باتجاه الاراضي اللبنانية.
ورغم مطالبة لبنان بالسيادة على عموم هذه المنطقة، لم تفرض الأمم المتحدة حتى الآن الانسحاب منه على إسرائيل، لاعتباره جزءاً من سوريا الخاضع لسيطرة إسرائيلية حسب اتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل. وما زالت قضية مزارع شبعا تثير العديد من المشاكل و الآراء والمناقشات بشأن السيادة عليها.
تعليقات: