بالمبدأ، قرّر العهد بأدواتهِ الحاكمة، اختصار المسافاتِ والحديث مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، "لم نعد نريدك حاكمًا بأمرنا!".
الهتافات العونية أمام مصرف لبنان قبل أيامٍ التي طالبت الحاكم بالكشفِ عن حجمِ الأموال المهرَّبة من المصارفِ إلى الخارجِ ووجهتها وسبب تكتّم سلامة عن قضيةٍ باتت ملك الرأي العام ومصيرها مرتبطٌ بمصير آلافِ اللبنانيين المحتَجَزة أموالهم في المصارفِ ليست مجرد هتافات مطلبية محقة.
بات الكباش بين الطرفَيْن يتّخذ شكل "العلني" ومن دون قفازاتٍ. والمعادلة التي فرضت نفسها دومًا لابقاءِ "الحاكم" على كرسيّهِ بإعتبارهِ "وصفة" للاستقرار صارت لدى العونيين معكوسة تمامًا: بدأ العدّ العكسي لرحيل "الحاكمِ" تأمينًا لعودة الاستقرار المالي كما النقدي!!
مع ذلك، لا دعوات صريحة اليوم من جانبِ التيار الوطني الحر لاستقالةِ رياض سلامة أو إقالته. ولا أمر مهمة من قصر بعبدا بقطعِ "وان واي تيكيت" لحاكم مصرف لبنان تُخرجه ليس فقط من دائرة القرار المالي بل من دائرة المرشّحين التقليديين لرئاسةِ الجمهورية. لكن هناك توجهٌ بمحاصرةِ الرجل ونبش "تخبيصاتهِ" وإظهار حجمِ تواطئهِ مع المصارفِ وحشرهِ في الزاويةِ عبر دعوتهِ الى فضحِ من تسبَّبَ بالكارثةِ الماليّةِ وفضيحةِ التحويلاتِ الى الخارجِ.
لن يكون ذلك سوى المسار الطبيعي للتمهيدِ لـ "مرشحِ العهد" مبدئيًا لحاكمية مصرف لبنان وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش الذي يحرص قريبون من "التيار" على الايحاءِ بأنّه يتقدّم عدة اسماءٍ مطروحة.
من يعرف الوزير بطيش عن قربٍ يدرك مدى رفضهِ لسياساتِ حاكم مصرف لبنان المالية والنقدية. ويسجَّل لوزير الاقتصاد السابق، أنّه كان من ضمن قلّةٍ عرضت للواقع المالي بشفافيةٍ عاليةٍ موجّهًا اصابع الاتهام الى مكمن الخلل الاول، "سياسات حاكم مصرف لبنان على مدى ربعِ قرنٍ". في المقلبِ الآخر ثمة من يؤكد، أنّ "من يطرح تغيير سلامة قبل أوانهِ يضيّع الوقت. القرارُ أصلًا هو خارجيٌّ وليس محليًّا. أما حين يكون البديل منصور بطيش، فهنا الكارثة"ّ!!
وبطيش المسلّم بأنّ الاجراءات الموجِعة إن اعتُمِدَت يجب أن لا تكون موجعة للناس، جَاهرَ دومًا بأنّ سياسة رفع أسعار الفائدة والهندسات المالية كانت من الأسباب البارزة لرفعِ كلفةِ تمويل الدولة والاقتصاد، وأنّ أيّ إصلاحٍ جديٍّ للمالية العامة يجب أن يتضمّنَ إصلاحًا موازيًا للسياسةِ النقديةِ.
ويُعرَف عن وزير الاقتصاد السابق، أنّه من أشدِّ المعارضين لسياساتِ سلامة الذي لم يلتزم كما يقول بتقديم كشوفاتٍ يفرضها قانون النقدِ والتسليفِ ما يسمح بمُراقبَةِ عمليان مصرف لبنان. ولذلك سبق أن وجّهَ اليه اسئلة عن مغزى عمليات الهندسةِ المالية وكلفتها ومدى نجاحها في تحقيقِ أهدافها، وأثرها على الاقتصاد والمالية العامة، حاملًا على "التذاكي والترقيع".
جاء هذا الكلام قبل٦ أشهرٍ على اندلاعِ انتفاضة 17 تشرين. وبالتزامن مع ارتفاعِ حدةِ الكباشِ بين الفريق العوني ورياض سلامة كان من المتوقع رؤية بطيش خطيبًا من منبر "لبنان القوي" ليعيد التذكير "بضرورة ردّ مصرف لبنان على سؤال التكتل بشأن التحويلاتِ المالية الى الخارجِ... لأننا لن نبقى ساكتين".
لكن عمليًا، سَكَت "التيار" عام 2017 عن رياض سلامة حين قبل التجديد له تحت رايةِ "تأمين أفضل استقرارٍ نقديٍّ وماليٍّ إتقاءً لعاصفةٍ ممكنة من دونالد ترمب"، كما ذكرت مقدمة نشرة "أو تي في" يومها. الرئيس الأميركي الذي كان عائدًا لتوّه من زيارةٍ تاريخيةٍ غير مسبوقةٍ الى الرياض محمّلًا بصفقاتٍ معلنة وأخرى غير معلنةٍ. سَكت العونيون عن ذلك بعد مسارٍ طويلٍ من رفضِ ميشال عون التجديد لحاكم مصرف لبنان لولايةٍ خامسةٍ.
رياض سلامة حاكم مصرف لبنان لأكثر من 27 عامًا، المدّة الأطول لأي حاكم مالي في لبنان والمنطقة، لم يستغرق التجديد له سوى دقائقٍ قليلةٍ بحكم التوافق الاجباري. يومها كانت سياسات "خود وهات" لا تزال تنعش بنودِ التسويةِ الرئاسيةِ. والدليل اتصالات متكرّرة من سعد الحريري بميشال عون لاعطاءِ الضوءِ الاخضر للتجديدِ لسلامة كانت كفيلة بتمرير الصفقةِ على السكتِ مقابل بعض التعيينات لصالحِ الفريقِ العونيِّ. ترافق ذلك مع قرارٍ اميركيٍّ ثابتٍ بعدم الاستغناءِ عن خدماتِ "الحاكم القوي" وربط هذا التوجه الدولي بمعيار الثقة بالنظام النقدي، الى أن انفجرت الازمة مجددًا قبل الانتفاضةِ الشعبيةِ في الشارعِ.
يقرّ العونيون اليوم، أنهم جَهدوا لعدم التجديدِ لسلامة قبل ٣ أعوامٍ "لكننا وجدنا أنفسنا نصارع لوحدنا على الحلبة". كانت العقوبات الاميركية على حزب الله تشتد وطأتها، والتوافق على البديل كان مستحيلًا في ظل التركيبة المعروفة داخل مجلس الوزراء، بالتزامن مع حملة تهويل دولي تربط الاستقرار ببقاء الرجل في موقعه. وثمة رأي الى جانب الرئيس عون كان يقولها كما هي "احتمال اشتداد الازمة المالية كان أكبر بكثيرٍ من احتمالاتِ الذهاب نحو حلٍّ مستدام للازمة المالية والاقتصادية. وعليه، ثمّة من يجب أن يتحمّلَ مسؤولية السياسات السابقة. لا أن يتحوّلَ الحاكم الجديد الذي سيتمّ تعيينه الى كبشِ محرقةٍ".
وكبرى المفارقات، أنّ سلامة في حال أكمَلَ ولايته الممدّدة حتى آخر يومٍ والتي تنتهي في أيار 2023 فإنه سيكون الشاهد مبدئيًا على خروجِ ميشال عون من قصر بعبدا في حال الالتزام بموعدِ الانتخابات الرئاسية في أيار من العام 2022، بعدما يكون قد أمضى ٣ عقودٍ حاكمًا بأمرِ المالِ والعهودِ!!
تعليقات: