سوريّة تحمل علم بلادها
إنها الذكرى الثالثة لخروج القوّات السورية من لبنان عام 2005. وكان ينبغي لهذه القوات أن تخرج وفق منطق «الأُخوّة والتعاون والتنسيق» (عناوين المعاهدة الموقعة بين البلدين) عام 2000. أي كان عليها أن تغادر لبنان بعد الهزيمة المدوية التي لحقت بالعدو الإسرائيلي في أواخر أيار من ذلك العام، وخصوصاً أن القيادة السورية كانت شريكة في ذلك الانتصار وراعية له بوضوح. لو فعلت القيادة السورية ذلك، لكانت أدخلت في الحياة والعلاقات السورية ــ اللبنانية، والسورية ــ العربية، تقليداً يصلح لأن يكون المدماك الأول في بناء علاقات سليمة بين الدول والشعوب العربية.
لم تخرج القوات السورية عام 2000. وإذا لاحظنا أن وجودها كان ينبغي إعادة تنظيمه وفق خطة مقرة (إعادة انتشار لأغراض دفاعية متخفّفة من مسؤوليات الأمن الداخلي اللبناني)، يمكن التذكير بأن هذا الوجود، بعد تاريخ عام 2000، قد أدخل العلاقات بين البلدين في أزمة بنيوية كانت تتفاقم باستمرار، رغم المظاهر ورغم «الكذب والخداع» الذي مارسته أغلبية الأطراف السياسية التي تعاونت مع السلطات السورية على امتداد المرحلة ما بين عامي 1990 و2005.
بيد أنّ إخراج القوات السورية عام 2005 لم يحصل، هو الآخر، وفق منطق طبيعي بين بلدين شقيقين. وهو على الصورة التي حصل فيها، قد فاقم من أزمة العلاقات بين البلدين. وما زالت هذه الأزمة تتعاظم إلى يومنا هذا. لم يكن الاحتجاج على الدور السوري، السياسي والعسكري والأمني، هو الخطأ. بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك في تبرير تقاطعات وأشكال من التعاون مع القوى الدولية المناهضة لذلك الدور السوري، والعاملة على إخراج القوات السورية من لبنان (باستثناء العدو الإسرائيلي).
الخطأ كان ولا يزال في استبدال الدور السوري بدور أميركي (خصوصاً)، ما أزاح وصاية قديمة لمصلحة وصاية جديدة، فيما كان المطلوب هو إلغاء الوصاية في المبدأ وفي الممارسة على حد سواء. وكان الخطأ الثاني أيضاً، في نقل لبنان من الموقع العربي الطبيعي إلى الموقع الأميركي، أي إلى موقع الالتحاق ببلد أجنبي يحتل بلداً عربياً، ويتوسل ذلك أداة لمشروع هيمنة شاملة على الشرق الأوسط «الجديد» و«الواسع» و«الكبير»!
أكثر من ذلك وأخطر أيضاً، فإنه قد جرى استخدام لبنان للضغط من أجل تغيير النظام السوري، أو تغيير «سلوك» هذا النظام، كما عبّرت الإدارة الأميركية في مرحلة لاحقة، بعدما تعذر عليها تحقيق الهدف الأول. ولقد انخرطت قوى لبنانية في «الأكثرية»، في هذه المهمة، بشكل يليق فقط بأولئك الذين خانتهم كل أشكال الواقعية، وألهمهم فقط التهوّر والحماسة وعدم الالتفات إلى المصالح الحقيقية والواقعية لهم ولبلدهم، الضعيف وغير المحصَّن بالحدّ الأدنى من مقومات الوحدة ومن عوامل وعناصر وشروط المواجهة (هذا إذا صحّت). ولا شكّ أن البعض قد غذى خلال السنوات الثلاث الماضية أحلاماً وأوهاماً في أن يشتقّ لنفسه مساحة وموقعاً في كنف المشروع الأميركي، من أجل إحداث تحويل جوهري في سوريا أولاً، وفي لبنان ثانياً. وكانت محاولات من هذا النوع قد حصلت بداياتها مبكراً بين قوى نافذة من البلدين. وهذه القوى قد تواطأت على التأسيس لذلك برعاية عربية «معتدلة»، وخصوصاً بعد مرض الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، ووفاته
لاحقاً.
وقد أدى الغزو الأميركي للعراق والموقف السوري الرافض لهذا الغزو ولتنفيذ إملاءاته وشروطه، دوراً حاسماً في تعزيز هذه المحاولات، وفي حصول التعديلات والتبدلات الدراماتيكية التي شهدتها المنطقة عموماً، وكان لبنان مسرحها الأساسي بعد العراق المنكوب. والمشكلة اليوم هي في هذا الأمر: أي في إمساك الإدارة الأميركية بمفاصل قرار الأكثرية النيابية اللبنانية، وباستمرار تورط (أو توهم) نافذين في هذه الأكثرية بمحاولة فرض معادلة تتخطى قدرات هذه الأكثرية، وتتعارض، في الجوهر، مع المصالح الوطنية اللبنانية. بالتأكيد يمكن أن يتحول نهج الأكثرية النيابية الحاكمة في لبنان حالياً إلى خطأ قاتل في مرحلة تحولات ممكنة، ذات طابع انعطافي أو دراماتيكي. والتحولات المذكورة قد تكون ذات طبيعة عسكرية أو سياسية، أو الاثنتين معاً. وقد تكون في العراق مباشرة، أو بسببه، مداورة. ولا تنفع التعهدات و«الضمانات» الأميركية المغدقة على أقطاب الأكثرية النيابية في حجب هذه الحقائق أو في إلغاء مفاعيلها. لقد كرّر السفير الأميركي السابق في لبنان، أن لبنان قد أصبح قيمة بذاتها بالنسبة إلى الإدارة الأميركية. هذا حديث دعائي لا ينفع في حجب حقيقة ما يحصل، وهو لن يستمر في أحسن الحالات، لما بعد الخريف المقبل أو لما بعد نهاية ولاية الرئيس بوش.
اليوم تُبذَل جهود هائلة من أجل الحفاظ على الوضع الراهن في لبنان، ومن أجل تعزيز النفوذ الأميركي ونفوذ حلفاء أميركا في السلطة اللبنانية. يجري لهذا الغرض استخدام كل أنواع الأسلحة الثقيلة، السياسية والإعلامية، الدولية والعربية والمحلية. يستحوذ العماد ميشال عون على النصيب الأكبر من الاستهداف. يجري استحضار الاحتياط الداخلي في محاولة لتأليب جمهور العماد عون على سياسته وعلى تياره (النائب ميشال المر ينشط في هذا السياق). قيادة المملكة العربية السعودية تنزع القفازات وتنخرط في معركة لبنان الداخلية، كما لم يحصل من قبل. يستطيع فريق السلطة أن يجد في ذلك مؤشرات نجاح. لكنه في الواقع علامات تورط أكبر، ذي نتائج قد تصبح في ظروف أخرى متحولة، انتحارية!
في المقابل، لا تفعل القيادة السورية وحلفاؤها اللبنانيون الكثير من أجل تقديم بديل مقنع وسليم. إن ما يميز سياسة الطرفين، هو على الأرجح، السعي إلى العودة بالعلاقات إلى سابق عهدها قبل ثلاث سنوات. قد يكون هذا الاستنتاج مبالغاً فيه. لكنه على كل حال مدعاة مساءلة لا يمكن الامتناع عن تكرارها: ضرورة مراجعة العلاقات بين البلدين وتقويم، وضرورة التوصل إلى خلاصات سليمة وصحيحة بشأن إقامتها على أسس راسخة من التعاون والتنسيق والإخوة و... التكافؤ!
إنّ نهوض المعارضة اللبنانيّة والقيادة السورية إلى هذا الأمر هو مسؤولية كبيرة. إنّه محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه ممّا فات من العثرات والأخطاء التي تحدث عنها المسؤولون السوريون، دون أن يحددوا ماهيتها بوضوح ودقة. إن تصحيح العلاقات بين البلدين والشعبين الشقيقين وتصويبها وتحسينها، مسؤولية مشتركة. ونكاد نصر على أن المعارضة الوطنية اللبنانية مطالبة بالخطوة الأولى. أما الخطوة الثانية، فمطلوبة من القيادة السورية نفسها. سيؤدي ذلك إلى تصحيح «وحدة المسار والمصير»، وإلى «طمأنة» أكثرية اللبنانيين إلى حسن الاستفادة من التجارب والقدرة على تصحيح الأخطاء. والأهم، سيقود إلى أشكال أخرى من الطمأنة والاطمئنان السياسي والأمني، العام والخاص، بما يسقط من أيدي الولايات المتحدة وشركائها «المعتدلين» العرب الكثير من أسباب وذرائع التدخل «الإنقاذي» في لبنان.
من أزمة البقاء و«التمديد» بعد عام ألفين، إلى أزمة الخروج غير المنسق وغير الودي عام 2005، ترتسم معالم مشكلة كبيرة، لن يأتي علاجها إلا على يد اللبنانيين بالدرجة الأولى، والسوريين بالدرجة الثانية. وبالنسبة إلى اللبنانيين، يتداخل تصحيح وتصويب ومعالجة أزمة العلاقات اللبنانية ــ السورية، مع تصويب وتصحيح ومعالجة أزمة العلاقات اللبنانية ــ اللبنانية. ومعالجة الأزمة الداخلية لا تحل بغير إصلاح النظام السياسي، وإلغاء الأساس الطائفي الذي يقوم عليه، لكونه عامل تقسيم وتشرذم للبنانيين، وعامل إضعاف للوحدة الوطنية، وعامل استدراج للتدخلات الخارجية، أو إغراء بحصولها! ويصبح المطلوب من المعارضة أن تبدأ الخطوة الأولى، أي أن تكون علاقتها بدمشق نموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات اللبنانية ــ السورية من التضامن والتكامل والتكافؤ. والمطلوب من الموالاة، أي فريق السلطة، أن يفكّ ارتباطه بالمشروع الأميركي ويتخلى عن التزاماته حيال هذا المشروع، وكذلك عن أوهامه حيال المكاسب التي يمكن أن يجنيها من خلال ذلك.
تبدو هذه الشروط تعجيزية! لكن، للأسف، ما دون ذلك سيكون الإمعان في سياسات سيدفع ثمنها بالأولوية أولئك الذين لا يحسنون قراءة التاريخ ولا التعامل مع الجغرافيا والمصالح الكبرى!
* كاتب وسياسي لبناني
تعليقات: