أما وأنّ الحكومة اللبنانية قد حسمت قرارها بـ«تعليق» دفع سندات اليوروبوندز، فإنّ البلاد قد دخلت مرحلة جديدة. هذا ما يُجمع عليه الموالون والمعارضون، وإن اختلفت حيثياتهم ومقارباتهم لسبل الخروج من أزمة اقتصادية ما زالت تدفع بالبلاد تدريجياً نحو حافة الهاوية.
ابتداءً من الساعة السادسة والنصف من مساء يوم السابع من آذار، بات لبنان بين فكّي كماشة: الدائنون من جهة، وصندوق النقد الدولي من جهة أخرى.
ينتظر لبنان تحديد ما إذا كان حاملو السندات الأجنبية سيوافقون على التفاوض بشأن شروط جديدة تتعلق بـ30 مليار دولار من الديون، في وقت تستعد الحكومة اللبنانية لتقديم مقترحاتها بشأن عملية تفاوضية، قال الرئيس حسان دياب إنّها ستكون «منصفة» و«حسنة النيّة»، بشرط ألّا تمسّ بالمصلحة الوطنية.
حتى الآن، لا يمكن إلّا الإقرار بأنّ خيار «تعليق» الدفع كان القرار الأمثل لإدارة الأزمة التي تعصف بلبنان. وللإنصاف، فإنّ القرار استند إلى حيثيات منطقية، واتُخذ بعناية فائقة، تمثلت في تجنّب خطاب شعبوي يثير غضب الدائنين، وهم الطرف الأقوى في المعادلة، وهو ما تمثّل في فتح باب التفاوض حول برنامج لإعادة هيكلة الديون، بالتوازي مع كلام عن الإصلاح الاقتصادي والمالي، بما يشمل عنوانين ملحّين، هما قطاع الكهرباء، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي المتضخم قياساً إلى حجم الاقتصاد اللبناني.
التفاوض هو الجانب الأول من معركة لن تكون سهلة، يلعب فيها الجانب النفسي، ولا سيما الثبات الانفعالي، عنصراً كبيراً في إدارتها، خصوصاً أنّ «الحرب النفسية» قد بدأت بالفعل، حتى قبل الإعلان عن «تعليق» الدفع، حيث يُبقي الدائنون خياراتهم غامضة، بين قبول التفاوض على إعادة الجدولة، أو الذهاب إلى إجراءات قانونية قد تكون موجعة.
ومن المؤكّد، أنّ الدائنين ستكون لديهم اليد الطولى في هذا المجال، خصوصاً أنّ الدولة اللبنانية هي الطرف المدين - الضعيف، التي يمكن أن تهتز أكثر نحو حافة الهاوية في أيّ تحرّك قد يلجأ إليه الطرف الدائن - القوي، الذي يمتلك باعًا طويلًا في لعبة الديون، والذي كما يبدو، سيدير المعركة بشكل جماعي، من خلال مؤسسات ذات خبرة، وهو ما يعكسه خبر نشرته وكالة «رويترز» مباشرة بعد كلمة حسان دياب، بشأن تشكيل الدائنين لجنة موحدة لإدارة حقوقهم بعد الأمر الواقع الجديد.
أمّا الإصلاح فهو الجانب الثاني، وربما الأكثر أهمية، في معركة باتت يوماً بعد آخر تتسمّ بطابع وجودي. ومع أنّ الرئيس حسان دياب، في خطاب «تعليق الدفع»، قد وضع النقاط الرئيسية على حروف بنود الإصلاح المنشود، حين تحدث عن تحويل لبنان من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج، بجانب مكافحة الفساد، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، إلّا أنّ العبرة تكمن في التنفيذ، وهو أمر يبقى موضع شكوك، في ظلّ انعدام الثقة بالدولة اللبنانية عموماً، ولكون الحكومة الحالية لا تملك حتى الآن، على ما يبدو، خطة واضحة من شأنها أن تجعل الوعود المزدحمة بكلمة «سوف»، المستقبل المجهول، وعبارات من قبيل «يجب أن» و«لا بدّ أن»، تُترجم على أرض الواقع.
هذه الوعود يبقى مصيرها معلّقاً على ما سيتمّ التوافق عليه في مجلس الوزراء، خلال الجلسات المخصّصة لمناقشة الوضع الاقتصادي- المالي. ومع ذلك، فإنّ ثمة أسباباً كثيرة للتشكيك في القدرة على التنفيذ. فالتجارب السابقة ليست مشجعة، لا في مجال الإصلاح الاقتصادي ولا في مجال مكافحة الفساد، ولعلّ آخرها، إحباط أحدث محاولة من قِبَل المدّعي العام المالي لوقف تغوّل المصارف على مصير البلاد والعباد، والتي سرعان ما ووجهت بعاصفة سياسية، بلغت حدّ اعتبارها «محاولة انقلابية» على النظام اللبناني، لا بل «دفنه»!
وكما انّ لبنان في حاجة إلى الإصلاح واخواته من خطوات إنقاذية، فهو بحاجة أكبر إلى المال والسيولة، ولكن من أين سيأتي المال؟
هنا، يحضر الحديث عن «صندوق النقد الدولي»، بوصفه الخيار الأول وربما الأوحد امام الدولة اللبنانية، باعتباره الحل الوحيد للأزمة اللبنانية، وشريان الحياة لإعادة الثقة في الإصلاح الاقتصادي التي يحتاج إليها الدائنون.
لكن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لن يكون خياراً سهلاً، حتى وإن قرّرت الحكومة اعتماد هذا الخيار. فأول مؤشرات الصعوبة هنا يتمثل في أنّ ثمة استقطابًا داخليًا حادًا بين رافضي ما يسمّونها «هيمنة» الصندوق، وفي طليعتهم «حزب الله»، وبين الداعمين لهذا الخيار. والواقع، أنّ الطرفين يمتلكان ما يكفي من أوراق لجعل الكباش السياسي يتحوّل تدريجياً إلى معركة كسر عظم.
«حزب الله» ينطلق من حقيقة أنّ اللجوء إلى وصفات صندوق النقد ستؤسس لانفجار اجتماعي لن ترحم نيرانه أحداً. وهي نظرية يخالفها الطرف المؤيّد، ويرى انّها ستتبخّر بمجرد إدراك التكاليف الكبيرة المطلوبة لإعادة هيكلة وإعادة رسملة القطاع المصرفي والألم الاقتصادي الذي قد ينطوي عليه تلبية احتياجات التمويل الخارجية دون قروض صندوق النقد الدولي.
هكذا يقف لبنان مجدداً عند منعطف خطير وأمام خيارين:
- الاول، رفض اللجوء الى صندوق النقد، وهو ما قد يجعل الحكومة في وضع صعب للغاية في مفاوضاتها مع الدائنين، في ظلّ عدم قدرتها على تأمين أموال إعادة الجدولة.
- الثاني، اللجوء إلى الصندوق، والإستجابة الكاملة لشروطه القاسية. وأولها إن قدّم للبنان الاموال فيجب أن يقول لبنان كيف سيردّ هذه الأموال ومن اين؟ ووفق أي خطة؟
هل فرص الإنفكاك من هذه الكماشة ممكن؟
ثمة من لا يزال يطرح حلولًا على شاكلة الذهاب إلى إجراءات موجعة. مع علمه أنّ قدرة المواطن اللبناني باتت عاجزة على التحمّل.
وثمة من يطرح بدائل جديرة بالنقاش، لكنها تتطلب إجراءات مؤلمة، ليس للفئات الشعبية وإنما للفئات الأكثر استفادة من السياسات المالية والنقدية السابقة.
وثمة من يطرح بدائل أكثر راديكالية عنوانها الرئيسي التحوّل الكامل على المستوى الاقتصادي، باتجاه الانفتاح على اقتصاديات جديدة، من الصين إلى روسيا. وهذا خيار يبدو الأصعب في ظل التراجع الاقتصادي العالمي وخطر كورونا.
امام هذا الواقع المُربك، ثمة من يرى، أنّ الهوامش ضيّقة جدًا امام الحكومة اللبنانية. فالهيكل اللبناني بات متصدّعاً، وطالما أنّ الحكومة لجأت في تعليق الدفع إلى ما يُسمّى «خيار شمشوم»، فلا بأس في الذهاب بعيداً نحو الخيارات القليلة المتاحة للإنقاذ... حتى وإن كانت المخاطر المترتبة عليها مرتفعة.
تعليقات: