حتى لحظة إعلان أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه عدم وجود صفقة في ملف "تهريب الاميركيين" العميل عامر الفاخوري ومطالبته بلجنة تحقيق تكشف المعطيات وملابسات قرار المحكمة العسكرية لم يكن لأي معطى قانوني أهمية تذكر في ملف عامر الفاخوري. ساهم بذلك بشكل أساس ظهور "أوركسترا" اعلامية سياسية و"ناشطين" من بيئة حزب الله وزّعت سهامها بكل الاتجاهات بما في رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وصولًا الى التشكيك بقيادة الحزب والايحاء بوجود صفقة تحت الطاولة.
هذه الاوركسترا تحديدًا كان لها النصيب في رسائل السيد نصرالله أكثر بكثير مما طال أعضاء المحكمة العسكرية. هؤلاء صنّفهم نصرالله في إطار القضاة "الذين خضعوا". لم يتبنّ ما ورد في متن بيان كتلة الوفاء للمقاومة لجهة "محاسبتهم"، بل المطالبة بتأليف لجنة تحقيق "فلست أنا الجهة القضائية المولجة البتّ في موضوع الحكم"!
والاوركسترا نفسها "الشغّالة"، منذ لحظة صدور القرار، التي خوّنت وشيطنت رئيس المحكمة العسكرية العميد الركن حسين عبدالله ووصلت الى حدّ المطالبة بإقالة قائد الجيش ووضعت رئيس الجمهورية والوزير جبران باسيل في قفص الاتهام بالضغط لإخلاء سبيل الفاخوري ضيّعت فرصة التمعّن في الملابسات القانونية لصدور قرار المحكمة ليعيد نصرالله الملف الى حيث يمكن الفصل في "عدالة" الحكم. هي "تنفيسة" واضحة من جانب نصرالله لشارع هاج وماج ظنًا منه أن 7 آيار آخر كرمى لعميل الخيام المجرم يدقّ الابواب!
حتى تحليق "طائرة ترامب" فوق رؤوس قيادات الجمهورية القوية، رؤساء وأحزاب، التي تولّت نقل العميل "المريض" الى بلاده في ولاية نيوهامشاير، لم يستغله نصرالله لاستهداف حلفائه في المقلب المسيحي الذين خاض معهم، كما قال، نقاشًا هادئًا في شأن ملف الفاخوري، مع تحييد تام لقيادة الجيش من "تهمة" التنسيق مع الاميركيين في "تهريب" العميل في سياق مناقض للمناخات التي سادت في الايام الماضية. خطاب هادئ واستيعابي بالكامل فوّت على بعض أصحاب الرؤوس الحامية في بيئة المقاومة فرصة التشفي ممّن أنصفهم نصرالله في رسائله حين جزم قبل أي شئ آخر بعدم وجود صفقة!!
بمطلق الاحوال، بدا الامر منذ بدايته كفيلم أميركي-لبناني طويل، بكثيرٍ من القطب المخفية، انتهى بعميل صار حرًّا بهمّة الدولة اللبنانية "الواعية والقادرة"، وضابط جريء ونظيف صار خائنًا وعميلًا سيحسب ألف حساب قبل أن يطأ بلدته الخيام مجددًا، وحزب استفزه تخوين وتشكيك الاصدقاء والحلفاء رافعًا الأصبع بوجههم هذه المرة: من يتّهم أو يشتم فليخرج من تحالفنا!!
كثرٌ لا يعلمون أن العميد الذي تنحى صبيحة مغادرة عامر الفاخوري لبنان على متن مروحية عسكرية أميركية، وقبل ساعات من خطاب أمين عام حزب الله وبعد يوم واحد من بيان كتلة الحزب وتحت التهويل بتحركات شعبية أمام مقرّ المحكمة، كان خطّ بيده كتاب التنحي قبل أيام من صدور قرار "العسكرية" بكفّ التعقبات عن "عميل الخيام".
خيار التنحي الذي تراجع عنه أتى تحت عنوان "إحترام الحيادية". وكونه إبن الخيام، البلدة التي عانت كما بلدات الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي وعملائه، و"لارتباطه عاطفيًا بهذه الذاكرة الاليمة"، فهو وجد نفسه أخلاقيًا وقانونيًا أمام احتمال التنحي عن النظر بالقضية، على أن يترك الامر لقاضٍ آخر يحكم بحيادية إحقاقًا للعدالة.
كان مجرد احتمال عاد العميد وتراجع عنه، وفق المعلومات، تحت وطأة اعتبارات عدّة أولها: عدم تصويره هاربًا من المواجهة وضعيفًا. كان يمكن لعبدالله أن ينفذ بريشه، ويظهر بطلًا قوميًا في "بيئته"، لكن دون ذلك عقبات أخلاقية وقانونية. فأربعة من أعضاء المحكمة حكموا بمرور الزمن العشري، بناء على أحكام القانون ومع التسليم بعدم وجود سابقة في تاريخ جرائم العمالة والارهاب في لبنان بالأخذ بالاتفاقيات الدولية لمحاكمة مدانين في الداخل. اجتهاد قاضي التحقيق العسكري نجاة ابو شقرا في هذا السياق لم يكن هناك ما يلاقيه من نصوص في قانون العقوبات. لكن معاكسة عبدالله لحكم الاربعة كان سيظهره بالمقابل خاضعًا لإملاءات و"أداة" يتمّ التحكّم بها عن بعد خلافًا لقناعته القانونية، وهذا ما لم يكن ممكنًا التساهل به، وفق قريبين من عبدالله.
هكذا أتى التنحي بعد "تسونامي" الرفض للقرار وما رافق صدوره من تداعيات سلبية وضغط سياسي ومعنوي هائل. هو الحزب نفسه "المُدان" بالقضية نفسها: الخضوع للضغوط الاميركية! قالها وئام وهاب، أحد حلفاء الحزب، حرفيًا "لا أحد قادر على رفض الطلب الاميركي". بالتأكيد كان وهاب واحدًا ممّن شملهم نصرالله في رسائله القاسية لـ "الاصدقاء".
كيف يمكن لضابط من بيئة المقاومة ونسيجها أن يبقى في موقعه رئيسًا للمحكمة العسكرية في ظلّ هذا الجوّ المتشنّج الذي توّج بكلام قاس مسّ بكرامة ضباط؟ ثمّة من قالها في أرجاء المحكمة العسكرية "هذه أقسى ضربة وجّهت للقضاء في تاريخ لبنان. كيف يمكن تخوين قضاة حكموا عكس الرغبات السياسية!".
وكان لافتًا في سياق خطاب نصرالله إشارته الى عدم علم الحزب بقرار المحكمة إلا بعد صدوره. وفي هذا السياق تفيد معطيات، ان الحزب الذي أبدى عبر أكثر من قناة رغبته بتأجيل المحكمة العسكرية قرارها قدر الامكان "بانتظار معطى ما"، كان مطمئنًا الى القرار الصادر عن مجلس القضاء الاعلى بالتأجيل المستمر للجلسات بسبب فيروس كورونا. لكن التئام المحكمة للمذاكرة في بتّ الدفاع الشكلية وصدور القرار بكفّ التعقبات دفع الى ردة فعل عالية السقف ترجمت في بيان كتلة الوفاء للمقاومة ليعود نصرالله ويحسمها: عامر الفاخوري لا يستأهل 7 آيار... حتى على السوشيل ميديا "لأن مصلحة البلد في مكان آخر". وفي السياق نفسه، لم يتبنّ نصرالله حرفًا مما تّم تسريبه في الاعلام منذ صدور القرار عن لسان مصادر في حزب الله كانت حذّرت العميد عبدالله من إنهاء مسيرته السياسية بخيانة أو الايعاز اليه بالتنحي أو تهديده بالويل والثبور في حال خالف رغبة الحزب!
تعليقات: