تفاصيل مؤامرة استيلاء المصارف على دولارات الودائع

تطمح المصارف إلى تحميل المودع والاقتصاد اللبناني كلفة باهظة (مصطفى جمال الدين)
تطمح المصارف إلى تحميل المودع والاقتصاد اللبناني كلفة باهظة (مصطفى جمال الدين)


قبل بضعة أيّام، تحدّثت وكالة "بلومبيرغ" عن وجود مقترحات يتم دراستها للسماح لأصحاب الودائع بالدولار في المصارف اللبنانيّة بسحب قيمة ودائعهم بالليرة اللبنانيّة، وفق سعر صرف يبلغ حدود الـ2000 ليرة مقابل الدولار الواحد. وتأكّدت جدّية هذا المقترح وحماسة المصارف له، عندما تبيّن أنّ أصحاب المصارف أنفسهم تداولوا بهذه الفكرة تحديداً في اجتماعهم مع النائب العام لدى محكمة التمييز غسان عويدات. لكنّ الفكرة لم تُدرج ضمن النقاط التي تم التفاهم عليها، لحاجتها إلى تعميم خاص من المصرف المركزي.

اليوم، أصبحت الفكرة قاب قوسين أو أدنى من التحقّق، بعد إدراجها في مشروع القانون الذي يعدّه مجلس الوزراء حاليّاً، لتنظيم الإجراءات المصرفيّة الاستثنائيّة، والمعروف إعلاميّاً بمشروع قانون "الكابيتال كونترول". وعلى ما يبدو، تم دسّ الفكرة في مشروع القانون بتشجيع من المصارف، التي تسعى للتخفيف من حجم إلتزاماتها لصالح المودعين بالدولار الأميركي، قبل الدخول في أي نقاش حول هيكليّة القطاع أو ملاءته لدراسة سيناريوهات إعادة هيكلته.

التغيير في المادّة السابعة

في بادئ الأمر، لم تكن الفكرة بأسرها مدرجة في أي من المسودّات السابقة التي جرى تداولها. فمسألة السحوبات النقديّة بالعملات الأجنبيّة، جرى تناولها في المادّة السابعة من مشروع القانون في المسودّات السابقة، واقتصرت المادّة على جملة واحدة خلاصتها تحديد سقف السحوبات بالعملات الأجنبيّة من خلال "تعاميم دوريّة تصدر عن المصرف المركزي بالتنسيق مع جمعيّة المصارف والمصرف المعني".

لكنّ قبل إحالة مسودّة مشروع القانون إلى مجلس الوزراء للمناقشة، وفي النسخة الأخيرة من مسودّة مشروع قانون، تبيّن أن تعديلاً كبيراً طرأ على المادّة السابعة، من خلال إضافة مادّة تعطي مصرف لبنان صلاحيّة إصدار التعاميم اللازمة لتمكين أصحاب الودائع بالعملات الأجنبيّة من سحب ودائعهم عبر تحويلها إلى الليرة اللبنانيّة، على أساس سعر الصرف المعتمد لدى الصرّافين. وقد تركت المادّة لمصرف لبنان تحديد سقوف هذه العمليّات وآليّاتها بموجب التعاميم الصادرة لهذه الغاية.

ومن المهم جدّاً الإشارة هنا إلى أنّ "سعر الصرف المعتمد لدى الصرّافين" يعني عملياً سعر الصرف الذي حدده مصرف لبنان لتعاملات الصرّافين، البالغ اليوم حدود الـ2000 ليرة مقابل الدولار، كما ذكرت وكالة "بلومبيرغ" في تسريباتها، والذي يُعد سعر صرف شكلي بالنظر إلى عدم بيع أي من الصرّافين للدولارات حاليّاً وفق هذا السعر. مع العلم أن سعر شراء الدولار الفعلي في تداولات السوق السوداء تجاوز اليوم عتبة 2.500 ليرة مقابل الدولار.

تبيّن لاحقاً أن الإضافة التي تمّت في المادّة السابعة لم تكن سوى إحدى التعديلات التي شهدتها مسودّة مشروع القانون، قبيل عرضها على مجلس الوزراء، إثر جلسات نقاش مع ممثلين عن المصارف ومصرف لبنان ومجموعة من الاستشاريين. وهكذا، يصبح السؤال هنا عن مصلحة المصارف من هذه الخطوة تحديداً، وعن الكلفة التي ستنتج عنها على المودعين وسعر الصرف.

خسارة للمودع وللاقتصاد الوطني

بالتأكيد تهدف هذه الخطوة عند تطبيقها إلى توفير حافز إضافي لأصحاب الودائع المقوّمة بالدولار للتخلّي عن دولاراتهم وسحب الودائع بالليرة اللبنانيّة، بعد رفع سعر الصرف الذي يجري على أساسه السحب. فحاليّاً، تعطي المصارف للمودعين خيار سحب ودائعهم المقوّمة بالدولار من خلال تحويلها لليرة اللبنانيّة عند السحب، لكن وفق سعر الصرف الرسمي الذي يقارب الـ1515 ليرة للدولار، بالنسبة لعمليات بيع الدولار، وهو ما يعني خسارة كبيرة للمودع بالنظر إلى سعر صرف الدولار الفعلي الذي يتجاوز الـ2500 في السوق السوداء. وفي حال جرى إقرار مشروع القانون بشكله الحالي، سيتمكّن المودع من سحب الوديعة بالليرة وفق سعر صرف أعلى يبلغ حدود الـ2000، وهو ما سيشجّع نسبة كبيرة من المودعين على سحب الودائع بهذه الطريقة، رغم وجود خسارة في قيمة ودائعهم، وفق هذا السيناريو أيضاً.

لكنّ هذا النوع من العمليّات سيعني تحميل المودع والاقتصاد اللبناني كلفة باهظة في المستقبل. فإقدام المودعين على سحب الودائع بالليرة، سيعني ضخ كميّات كبيرة من السيولة بالليرة اللبنانيّة في الأسواق، والتي ستتحوّل بطبيعة الحال إلى طلب على الدولار في السوق الموازية، وهو ما سينعكس في ارتفاع كبير في سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء.

وبالتالي، سيتحمّل المودعون خسارة إضافيّة مع زيادة الفارق بين سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء الذي يحدد قيمة ودائعهم، وسعر الصرف التي تقوم المصارف على أساسه بعمليات سحب ودائع الدولار بالليرة اللبنانيّة، والذي تم تحديده عند مستوى 2000 ليرة للدولار. أمّا الخسارة الأكبر، فستكون على الاقتصاد الوطني وعموم المستهلكين، الذين سيواجهون تحليق سعر الصرف عالياً، بسبب هذا النوع من العمليات، أي الضغط الذي تسببه على سعر الصرف في السوق السوداء.

ماذا تريد المصارف؟

إذاً، لماذا تريد المصارف الدخول في هذا النوع من العمليات رغم كلفتها على المودع والإقتصاد المحلّي؟ بالنسبة إلى المصارف، تندرج الودائع ضمن خانة الالتزامات في ميزانيّاتها، فيما تشكّل الودائع المقوّمة بالعملات الأجنبيّة العامل الأكثر ضغطاً عليها في الفترة الحاليّة، بالنظر إلى شحّ السيولة بالعملة الصعبة الذي يعاني منه النظام المالي، ونظراً لتوظيف المصارف معظم سيولتها بهذه العملات في أدوات الدين السيادي.

بإختصار، ستسمح هذه العمليات للمصارف بالتخلّص من جزء كبير من ودائعها المدولرة، من خلال تخلّي المودعين عنها والموافقة على سحبها بالليرة، ولو بعد تحمّل خسارة معيّنة. وبذلك، ستتمكّن المصارف من التخفيف من ضغط أصحاب الودائع بالدولار، وتخفيض الفجوة القائمة في ميزانيّتها الناتجة عن الفارق الكبير بين حجم الودائع والإلتزامات بالعملات الصعبة من جهة، وحجم الموجودات القابلة للتسييل بهذه العملات من جهة أخرى.

ليس من المصادفة أن تشعر المصارف بالحماسة المفاجئة لهذا الطرح في هذه المرحلة بالذات، فالمصارف ومنذ تعثّر الدولة في سداد سنداتها أدركت أن معظم موجوداتها باتت مكبّلة وغير قابلة للتسييل، بالنظر إلى إرتباطها بالدين العام. وهي أدركت لهذا السبب تحديداً أن المرحلة المقبلة سيكون عنوانها إعادة الهيكلة الشاملة للدين العام وميزانياتها وودائعها، خصوصاً بالنظر إلى عدم قدرتها اليوم على إيفاء جميع إلتزاماتها بالعملة الصعبة للمودعين. وهكذا يبدو أن المصارف تريد إستباق كل هذه المرحلة، من خلال التخفيف من حجم الودائع المترتبة عليها على طريقتها ووفق سيناريوهات لا تضرّها ولا تمس برساميلها، وهو ما يمكن أن يشكّل بداية مسار إعادة الهيكلة لكنّ بشروطها وبما يتوافق مع مصالحها.

أما الدولة، فما زالت تعمل بعيداً عن خطّة متكاملة للتعاطي مع كل أزمة النظام المالي الحاليّة. هذا ما يبدو على الأقل من كل بنود مشروع قانون الكابيتال كونترول، التي لم تقدّم أي جديد على مستوى تعامل المصارف مع مودعيها، بإستثناء بند سحب الودائع بالليرة الذي جاء لمصلحة المصارف نفسها. وبينما تقول الحكومة أنّها بصدد طرح خطة ماليّة واقتصاديّة متكاملة لمعالجة مسألة الانهيار الذي يضرب النظام المالي، يأتي مشروع القانون هذا بعيداً عن التكامل مع أي رؤية على هذا المستوى، وهو ما يجعل المراقب البعيد يتساءل عن جديّة الخطة المنتظرة.

تعليقات: