أصبحت بعض السلع الرئيسة بحكم الكماليات بالنسبة للبعض (عباس سلمان)
لم يعد باستطاعة أحد إحصاء الأزمات التي تُثقل يومياتنا. بات الفرد اللبناني ينتقل من عقبة لأخرى، من مأزق إلى آخر. ليس الحديث عن كماليات وعن إحياء أعياد ومناسبات، بل جلّ ما يشغل غالبية الشعب اللبناني هو تأمين لقمة العيش يوماً بعد يوم. فما يحمله اللبناني من ليرة أو دولار إن وُجِد، فهو كافٍ ليشتري حاجات يومه. ويومه ليس كغده، فأسعار السلع تتغير لحظياً وكأنها أسهم في بورصة.
أسعار السلع الأساسية دخلت بازار الجشع. بعضها تأثّر بتغيّر سعر الدولار الذي بدوره تقلّب بفعل الفساد والنهب، وبعضها الآخر ارتفع نتيجة غياب رقابة الدولة، وبالتالي نعود في التفاصيل إلى الفساد والنهب. لكن في المحصلة، المواطنون يدفعون ضريبة تركيب نموذج سلطوي سياسي يسرقهم كسلسلة متنقّلة، من المستوردين إلى الموزّعين فالبائعين. وكل هذا التسلسل يرجع إلى قواعد وضعها ساسة أنهكوا البلاد بفسادهم، وصولاً إلى حد عدم قدرتهم على التحكّم بالفساد ونتائجه.
تفلّت الأسعار
أسعار السلع تخطّت كل التوقعات، وكلّ من يؤكد وضعه لائحة أسعار، فهو لا يتوخّى الدقة ما لم يحدد تاريخ انتقائه للأسعار. فما يُسجَّل اليوم، لا يُسجّل غداً، من علبة الفول إلى سندويش الشاورما إلى كيلو اللحم. لا شيء يبقى على حاله لأكثر من 24 ساعة.
تسجّل الدولة أسعار السلع عن طريق وزارة الاقتصاد. تحاول جاهدة لجم الأسعار وضبط ما تسميه "مخالفات"، لكن في الواقع، لا مخالفات في نظام اقتصادي حر يضمن تفلت الأسعار بحجة قانون العرض والطلب. وبالتوازي، تحاول مبادرات فردية وجماعية خاصة، تسجيل واقع الناس اليومي قدر الامكان، وهذا حال جمعية حماية المستهلك التي تختلف أولوياتها عن أولوية الدولة، فتضع في سلتها الغذائية أصنافاً حياتية أساسية حقيقية، ومنها اللحوم التي يمكن وصفها بأنها والدولار صنوان.
جولة فردية على التعاونيات (السوبرماركت)، كافية لإثبات أن ما يبتاعه الفرد اليوم، قد لا يحظى به غداً. السلع متوفرة، لكن أسعارها قد لا تتوفر في يد كل الزبائن. وكل سلعة قد ترتفع بمعدلات متفاوتة، منها ما هو مُحتَمَل، كارتفاعها بنحو 250 ليرة، ومنها ما لا يُحتَمَل، كارتفاعها بنحو 2000 ليرة، وأكثر. وهُنا، لا بد من الاشارة إلى أن نتائج فارق الأسعار يؤخذ بحسب الفاتورة النهائية للسلّة المشتراة، وليس بحسب كل سلعة على حدى.
هل من رقيب؟ بالتأكيد لا، فوزارة الاقتصاد تقول بأنها تراقب الأسعار، لكن فعلياً، إن رقابتها مخالفة للقوانين. فلبنان يتبع نظاماً اقتصادياً حراً، لا تحديد فيه للأسعار. أما ما يؤخذ على أنه سلع مدعومة، فمراقبته يرتبط بتأمين عديد بشري ينطلق إلى كل دكان في الأحياء، وبقرار سياسي بالتغيير. وهذا كله ليس موجوداً اليوم. وبالتالي، لا رقابة على الأسعار، ولا حماية لحقوق المستهلكين.
من المستوردين إلى الواقع
احتمل أهل الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، بعض الارتفاع في أسعار السلع. لكن الوضع ما عاد يُطاق، إذ أصبحت بعض السلع الرئيسة بحكم الكماليات بالنسبة للبعض. فها هو اللحم يحلّق بعيداً بأسعاره المرتفعة، حين سجّل متوسط سعر كيلو لحم البقر 20 ألف ليرة، فيما وصل في بعض المناطق إلى 25 ألف ليرة، ما حذا بالكثير من الفقراء ومتوسطي الحال، إلى الاستغناء عن اللحم، واعتماد الدجاج.
لا تقتصر القضية على تبديل سلعة بأخرى. فللمسألة أبعاد تكشف حقيقة ما يجري من استغلال للأزمات. ففي حين يؤكد نقيب مستوردي اللحوم غابي دكرمجيان، بأن أسعار اللحوم "لم تتغيّر"، وأن أسعار اللحوم في "أغلب السوبرماركت على حاله"، يُسجّل السوق عكس ذلك.
يعرض دكرمجيان في حديث لـ"المدن"، أسباب تفاوت الأسعار، من دون أن يقصد، فيشير إلى أن "بعض تجار اللحوم قد قلّصوا حجم استيرادهم، بالتوازي مع شح الدولار. خصوصاً وأن أموال المستوردين في البنوك، ما عادت لهم". وهذا التفصيل البسيط، يحمل في طياته لبّ الأزمة وإجاباتها المخفية. فإن عجز المستوردون عن تأمين الدولار، فهذا يعني تفلّت تسعير اللحم، بدءاً من بعض المستوردين، وصولاً إلى البائعين، مروراً بالموزّعين.
وإن كان المستوردون يسلّمون الموزعين وبعض التعاونيات بالأسعار المعهودة، فإن ضغط تقلّب سعر الدولار يغري البعض لرفع الأسعار. وهذا بدوره يُنذر بكارثة كبرى في المستقبل القريب، وفق ما يشير إليه دكرمنجيان، حين يلفت النظر إلى أن "الخوف محتَمَل بين شهريّ أيار وحزيران المقبلين، بسبب انخفاض قدرة الشركات الاجنبية على التوريد للمستوردين اللبنانيين".
الأزمة ذات وجهين، داخلي وخارجي. فلا الداخل قادر على تأمين الدولار للاستيراد، ولا الخارج مستعد لتسليم البضائع للمجهول، ووسط المعضلة، يحاول اللبنانيون التأقلم بإعجاز.
الحقيقة مختلفة
لا أزمة من جهة المستوردين. فمن أين تأتي تقلبات الأسعار؟... تسأل ربة منزل، أحدَ أصحاب الملاحم في قرية جنوبية في قضاء صور، عن سعر كيلو اللحم. فيخبرها بأن الكيلو "اليوم، بعشرين ألف ليرة. لكن غداً قد يرتفع". واستناداً لهذا الواقع، يلجأ بعض أبناء القرى للاتصال بأصحاب الملاحم لسؤالهم عن سعر الكيلو، ويسارعون لحجز كيلو أو أكثر، لتفادي ارتفاعه لاحقاً.
ويستغرب أحد أصحاب الملاحم ارتفاع الأسعار، ويؤكد في حديث لـ"المدن"، أن بعض أصحاب المسالخ، يبلّغون اللحّامين بسعر اللحم يوماً بعد يوم، رافعين حجّة ارتفاع أسعار المواشي وأسعار اللحم المستورد "وكأن مستوردي وتجار اللحوم يستوردون من أجلي يومياً". وفي الحقيقة "الكل يتلاعب بالأسعار. واللحّامون آخر نقطة في مسار اللحوم، حيث يضعون الأسعار وفق ما يشترونه. وبالتأكيد، لا نتحدث عن أصحاب الضمائر النائمة، بل نتحدث عن غالبية عظمى تقع تحت وطأة تقلبات الأسعار".
مستوردوا اللحوم يطمئنون إلى عدم وجود ازمة، ومع ذلك، ترتفع أسعار اللحوم. فهل سيستمر التناقض إلى حد الانفجار؟
الانفجار، بتحليل ما يقوله دكرمنجيان، آت. فإن كان سعر اللحم لغاية اليوم، "لم يتغيّر. فإن السعر سيتبدّل في الشهرين الخامس والسادس من العام الحالي، لأن التجّار الأجانب لن يسلّموا اللحوم للتجار اللبنانيين". وهذا نابعٌ من أزمة كورونا، بعدما تراجع الاقتصاد العالمي، وامتنع الكثير من التجار عن تسليم بضائعهم عن طريق البواخر.
تراجع استيراد اللحوم وارتفاع أسعارها، يعني أن على متوسطي الحال والفقراء، اعتياد عدم أكل اللحم بصورة دائمة، لكنه يعني بالتوازي، أن على ما تبقّى من مجتمع مدني، أن يرفع الصوت عالياً باتجاه تحديد المسؤوليات والكشف عن النقطة التي يتفرّع منها الفساد في تسعير السلع... وحتى تلك اللحظة، يستمر ارتفاع أسعار اللحوم، ومن المحتمل إلحاقها بسلة متكاملة من السلع مرتفعة السعر، ما لم تستفق الحكومة لضرورة إجراء مبادرات فردية تعيد اللحم وباقي السلع، لهامش أرباحها السابق.
تعليقات: