عبد الباري عطوان
تدخل صحيفة القدس العربي هذا الاسبوع عامها العشرين، قوية، شابة، ملتزمة، وفوق كل هذا وذاك مختلفة في هويتها، صلبة في مواقفها تنحاز دائما الي قضايا امتها ولا تساوم عليها ابدا.
تسعة عشر عاما كانت حافلة بالأحداث التي هزت هذه الأمة والعالم بأسره، ابتداء من حرب العراق الاولي عام 1991، مرورا باتفاقات اوسلو، واحداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر)، والحرب علي ما يسمي الارهاب التي تلتها وما زالت مستمرة حتي اليوم، وانتهاء بالغزو الامريكي لبغداد واحتلالها، واعدام الرئيس الراحل صدام حسين في يوم عيد الاضحي المبارك علي يد مجموعة من المتواطئين مع المشروع الامريكي التدميري لهذه الأمة.
وقفنا مع العراق وشعبه في مواجهة الهجمة الامريكية الاولي، ولم نكن ابدا مع احتلال الكويت، وقفنا مع العراق لإيماننا الراسخ بان قوته العسكرية المتنامية التي كانت تشكل خطرا علي اسرائيل وتوشك ان تحقق التوازن الاستراتيجي معها هي الهدف، وان الكويت كانت مصيدة، مثلما كانت ضحية في الوقت نفسه.
عارضنا الحرب علي ما يسمي بـ الارهاب ليس لاننا نؤيد منظماته، ونقر قتل المدنيين الابرياء، وانما لاننا كنا ندرك جيدا، بناء علي القراءة والتحليل والمتابعة الدقيقة ان الادارة الامريكية الحالية تتبني مشروعا عدوانيا ضد العرب والمسلمين، ولمصلحة اسرائيل، ولهذا لم نفاجأ عندما امتدت هذه الحرب الي العراق تحت ذرائع كاذبة وملفقة، مثل اسلحة الدمار الشامل العراقية والعلاقة المزعومة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة .
تسعة عشر عاما من التغريد خارج السرب الاعلامي الرسمي العربي، تعرضنا خلالها للكثير من الطعنات من مختلف الاتجاهات، بهدف اسكات صوتنا الي الأبد، لان الصحافة المستقلة، والرأي الحر الجريء، والليبرالية الوطنية، مفردات يجب ان تحذف كليا من قاموس التعبير العربي، في هذا الزمن وكل الأزمان المقبلة.
لم تتغير مواقفنا، مطلقا، ليس لأننا ضد التغيير، وانما لأننا لا نحيد عن ثوابتنا، التي هي ثوابت هذه الامة، نتمترس في خندقها، نذود عنها في مواجهة من يريد التفريط بها، وتحويلنا الي عبيد في خدمة المشروع الامريكي ـ الاسرائيلي المشترك.
ضاقت كل ما يسمي بالمناطق الاعلامية الحرة عن استيعابنا، والسماح لنا بالتواجد والطباعة، وهي التي فتحت ابوابها علي مصراعيها امام قنوات الجنس والخلاعة والطائفية الحاقدة، سمحوا لصحف رسمية وغير رسمية، بكل اللغات، الاردية والفارسية والانكليزية والعربية، بالتناسخ والتكاثر بشكل مرعب ودون اي عوائق او قيود.
ولعل موقف الحكومة المغربية هو الاكثر غرابة واستعصاء علي الفهم، فقد تقدمنا بطلبنا بإيعاز منهم، ولتحقيق توازن مع صحف عربية اخري حصلت علي ترخيص بالطبع، وبسهولة غير عادية، وتقدمنا بكل الأوراق المطلوبة، وابلغنا وزير الاتصال الخارجي المغربي (الاعلام) في حينها السيد نبيل بن عبد الله بصدور الموافقة رسميا، وأذيع الخبر عبر وكالة الانباء المغربية الرسمية، واتصل بنا التلفزيون الرسمي مباركا ومجريا لقاء حول هذه الخطوة التي تؤكد الانفتاح الاعلامي المغربي، وفجأة، وبعد ان تعاقدنا مع مطبعة جريدة العلم اليومية الناطقة باسم حزب الاستقلال، وأجرينا التجارب اللازمة، قالوا لنا تريثوا، هناك اجراءات اخري يجب استيفاؤها، وما زلنا ننتظر منذ خمس سنوات استيفاء هذه الاجراءات.
بعد البحث والتقصي، اكتشفنا ان دولة عربية نفطية كبري مارست ضغوطا علي الحكومة المغربية، مثلما مارست ضغوطا علي دول اخري لمنع طباعتنا، وأي اعلانات عنا، لاننا رفضنا ان نكون مثل الآخرين، اعلاما يقف مع كل مخططات تدمير هذه الأمة وإذلالها.
تعرضنا لتهديدات كثيرة، مثلما تلقينا عروضا مالية مغرية جدا، ولكنها مشروطة بتغيير خطنا التحريري، والعودة الي السرب الاعلامي الرسمي، فلم نخف من الاولي، ولم تغرنا الثانية رغم الظروف المالية الصعبة المرفوقة بحصار توزيعي واعلاني خانق، وفضلنا ان نواصل مسيرتنا كما بدأناها، نحمل الأهداف نفسها، وندافع عن القضايا نفسها بكل عزيمة وقوة.
ما زلنا نصدر من شقة متواضعة في حي لندني متواضع، وبعدد محدود من الزملاء الشرفاء، لا يزيد تعدادهم عن عشرين شخصا، ابتداء من سكرتيرة للصحيفة كلها، ومرورا بالتحرير وادارته والتصحيح والاخراج، وانتهاء برئيس التحرير. نخبة من المحاربين الشجعان القابضين علي الجمر، المؤمنين بالرسالة، المتطرفين في الانحياز لقضايا الحق والعدالة والمساواة ونصرة المظلوم.
كثيرون زارونا في مقرنا المتواضع معظمهم للتضامن والشد علي الأيدي، وبعضهم بدافع الفضول، وكتابة التقارير عن هذه الظاهرة الفريدة من نوعها. احد هؤلاء كان مسؤولا كبيرا جدا في الأمن الفلسطيني، بعد ان تفقد المكان، وأحصي عدد العاملين، استأذن بالمغادرة دون ان يكمل فنجان القهوة، وعند الباب، وقبل ان يستقل سيارته الفارهة، التفت اليّ وقال: اسمعني جيدا، ان اول درس يعلموننا اياه هو ان الامن هيبة ، وانتم كصحيفة هيبتكم كبيرة، وانصحك بعدم دعوة احد لزيارتكم، حتي لا تفقدوا هذه الهيبة .
المسألة لم تكن ابدا مسألة مقر فخم، او عدد العاملين، وانما المنتوج الاعلامي، والرسالة المراد ايصالها. ورسالتنا نلخصها في محاربة الفساد، ونشر قيم العدالة والديمقراطية والمساواة، والقضاء المستقل، والشفافية المطلقة، والمحاسبة، ونصرة جميع حركات المقاومة في مواجهة اشكال الاحتلال كافة.
ورغم الموقف الواضح الملتزم، لم نغفل مطلقا واجبنا المهني، ولم نجعل الموقف يطغي علي الموضوعية، نشرنا جميع الاخبار، التي نتفق معها او نختلف، ولم نحجب خبرا لم نرض عنه، ولم نتجاهل رأيا آخر مهما كان مخالفا لرأينا.
نجد لزاما علينا ان نعيد التأكيد مجددا، بأننا لسنا صحيفة المعارضات او السلطات العربية، ونطمح ان نكون صوت المواطن العربي الذي يشاركنا آمالنا في حاضر افضل ومستقبل اكثر اشراقا.
القدس العربي ربما تكون الصحيفة العربية الوحيدة التي مرت بمراحل النمو الطبيعي، اي الطفولة، والصبا، والشباب، اي انها لم تصدر شابة يافعة مفتولة العضلات باذخة الملابس والعطور، تسكن القصور الفخمة، وتتباهي بثرائها الفاحش.
نحن نطبع اليوم في ثلاث محطات رئيسية، هي لندن وفرانكفورت ونيويورك، ونملك شبكة من المراسلين المتميزين في مختلف العواصم العربية والأجنبية، معظمهم غير متفرغين، ونعتز بمجموعة من الكتاب الشجعان المتمردين علي نظام رسمي فاسد اغلق في وجوههم كل منابر التعبير. وبفضل هؤلاء، وأسرة التحرير المتميزة، بات عدد النقرات علي موقع صحيفتنا علي الانترنت يقترب من مليوني نقرة يوميا.
لا ننسي في هذه العجالة، ان نحيي امبراطورنا الحقيقي، والبوصلة التي تحدد اتجاهنا، والرقيب الشرس الذي نخشاه، الا وهو قارئنا المنتشر في مختلف قارات العالم. نقول له شكرا، وننحني له وحده عرفانا بالجميل، لانه كان سندنا دائما، الذي يشد من ازرنا في المراحل الصعبة التي واجهتنا وكدنا في احد الايام ان نتوقف عن الصدور من شدتها، وكتبنا افتتاحية الوداع، وما زلنا نحتفظ بها.
لقارئنا العزيز نقول شكرا، ومع هذا الشكر عهد بأن نظل علي الخط نفسه، وفي الخندق نفسه، خندق هذه الأمة، وقضاياها المصيرية، أيا كان الثمن، وكل عام وانتم بألف خير.
تعليقات: