بعد نحو 6 أشهر على تفلّت العمل المصرفي، واستنسابية المصارف في فتح فروعها وإغلاق أبوابها أمام المودعين والزبائن، وفي تحويل الأموال في الداخل والى الخارج، وفي وضع السقوف على السحوبات بالدولار، وصولاً الى وقف هذه السحوبات، وانعكاس هذا الأمر خسارةً للمودعين ورفعاً في سعر صرف الدولار في السوق الموازية وغلاءً في الأسعار، وتراجعاً في القدرة الشرائية... يسأل اللبنانيون: هل تخضع المصارف لسلطة الدولة؟ من يحاسبها؟ ولماذا لم يفعل ذلك حتى الآن؟ وهل يُمكن تقييد حركة أموال المودعين، خوفاً من التهافت الى المصارف «Bank Run»، وإلى متى يستمرّ؟
في وقتٍ يعاني اللبنانيون من القيود على إيداعاتهم المصرفية، ويتخوفون من تبخّر أموالهم وجنى أعمارهم، يترقبون حلاً نهائياً لهذا الموضوع ومحاسبة المصارف، التي كبّدتهم أثماناً مالية ومعنوية باهظة، جرّاء حجز أموالهم وفرملة أعمالهم.
جدوى «الكابيتال كونترول»
يوضح الوزير السابق المحامي زياد بارود لـ«الجمهورية»، انّ «المصارف مؤسسات تخضع في الترخيص لها لسلطة مصرف لبنان ورقابته، بموجب قانون النقد والتسليف، الذي ينص صراحة على أنّ مصرف لبنان هو الهيئة الناظمة للمصارف. وإذا خالف مصرف قانون النقد والتسليف أو أنظمة مصرف لبنان وتعاميمه وتصرّف باستنسابية، يجب أن يُحاسب». وتعود هذه المحاسبة الى مصرف لبنان، الذي يملك صلاحيات كبيرة في هذا الإطار، ويُمكنه منع المصرف المخالف من إجراء بعض العمليات، وصولاً الى تعيين مراقب أو مدير موقت للمصرف، وشطب المصرف من لائحة المصارف، بحسب ما يشرح بارود.
لكنّ المشكلة الراهنة تكمن في القطاع المصرفي بكامله وليس في مخالفة مصرف محدّد. فالمصارف كلّها استنسبت في التحويل ووضع السقوف على السحوبات، وترد ذلك الى تخوّفها من تهافت المودعين على سحب ودائعهم بكاملها، الأمر الذي يؤدّي الى سقوط المصارف وخسارة المودعين أموالهم. لذلك، ونظراً الى الظروف الإستثنائية الراهنة التي تتطلّب تنظيم العمليات المصرفية، أتت فكرة «الكابيتال كونترول»، بحسب ما يقول عضو لجنة المال والموازنة النيابية النائب ياسين جابر لـ«الجمهورية».
ويشير، أنّ «وضع قيود على سحب الودائع بكاملها، إجراء تأخذه كلّ الدول في الظروف الإستثنائية، إذ من غير المنطقي أن يسحب المودعون جميعاً كلّ أموالهم من المصارف»، لافتاً الى أنّ «المصارف في الولايات المتحدة الأميركية وضعت سقفاً للسحوبات، في ظلّ أزمة كورونا».
لكن هناك وجهات نظر مختلفة حول مشروعية «الكابيتال كونترول»، وكذلك حول المرجع الصالح لإقراره أو اعتماده، وإذا كان من صلاحية حاكم المصرف المركزي أو يجب إقراره بقانون، أو أنّه غير دستوري من أيّ جهة أتى. ويرفض رئيس مجلس النواب نبيه بري طرح أيّ مشروع «كابيتال كونترول» على مجلس النواب لأنّه مخالف للدستور، ودفع وزير المال غازي وزنة الى سحب المشروع الذي قدّمه للحكومة، لأنّه شهد تعديلات عدة أفرغته من مضمونه، وأصبحت صيغته النهائية مختلفة.
ويرى جابر، «أنّ الكابيتال كونترول كان يجب أن يُقرّ قبل أسبوع من فتح المصارف بعد إغلاق أبوابها في تشرين الأول الماضي»، مشيراً، أنّ «الدول التي مرّت بتجربة مماثلة، لم يُعد فتح المصارف فيها إلّا بعد أن نُظّمت علاقة هذه المصارف مع المودعين».
كذلك، يعتبر بارود، أنّ «الكابيتال كونترول الآن في لبنان لم يعد مجدياً، وقد تخطّاه الزمن بعد أزمة «كورونا»، وما يحصل في العالم من تراجع على المستوى الإقتصادي والنقدي، ومن أزمة مالية معولمة. فهذا المشروع كان يجب أن يُقرّ في بدايات الأزمة التي تلت 17 تشرين، أمّا الآن فلم يعد مفيداً». فيما يشير جابر، أنّ «العمل على هذا الخط توقّف، في ظلّ اهتمام الحكومة بمواجهة فيروس «كورونا»، وفي ظلّ إغلاق المصارف».
هذا الإقفال يُشكّل بدوره محطّ رفض وامتعاض لدى المواطنين لِما له من تأثير سلبي على حاجاتهم. ويرى بارود، أنّ «إقفال المصارف في فترة ما بعد 17 تشرين وقبل «كورونا»، أدّى الى ضرر كبير للقطاع المصرفي ولحقوق المودعين. كذلك، إنّ الإقفال التام خلال التعبئة العامة الآن، ومع تفهّم هواجس موظفي المصارف، يؤدّي الى ضرر كبير في مصالح المودعين وحقوقهم، فيما يُمكن المصارف أن تفتح، مع أخذ الإحتياطات اللازمة لحماية موظفيها وزبائنها على حدّ سواء، على غرار ما تفعل الصيدليات. وبالتالي يجب معالجة موضوع إقفال المصارف، مع معالجة موضوع السحوبات».
المحاسبة
وفي ظلّ غياب أيّ محاسبة للمصارف، منذ تشرين الأوّل 2019، إن من مصرف لبنان أو الحكومة أو مجلس النواب أو القضاء، وتجميد القرار القضائي الذي اتخذه النائب العام المالي القاضي علي ابراهيم، والذي قضى بوضع إشارة «منع تصرّف» على أصول 20 مصرفاً لبنانياً، على خلفية إقفالها خلال الأزمة التي تلت 17 تشرين الأول 2019 وتحويلها مليارين و200 مليون دولار الى الخارج بطريقة استنسابية، لم يكن أمام المودعين المتضررين إلّا تقديم دعاوى شخصية أمام قضاء العجلة، وقد نجح البعض في الحصول على قرارات قضائية تُلزم المصارف بإعطائهم حقوقهم.
ويقول بارود: «على أهمية هذا النوع من التدابير ومشروعيته يجب أن يكون الحل عامّاً ومنطقياً، وأبعد من حلّ فردي وشخصي قضائي».
الى الآن، لم يحاسب مصرف لبنان المصارف، فهل يخضع بدوره للرقابة أو أنّه خارج سلطة الدولة؟ يجيب بارود: «مصرف لبنان يخضع الى قانون النقد والتسليف، ويخضع كذلك، ولو بطريقة غير مباشرة الى الرقابة البرلمانية، فيُمكن مجلس النواب أن يطرح سؤالاً عبر وزير المال للحصول على أجوبة في شأن مصرف لبنان»، مؤكّداً «أنّه لا يوجد تفلّت من الرقابة».
وفي هذا الإطار، وجّه «التيار الوطني الحر»، من خلال كتلته النيابية، كتاباً الى هيئة التحقيق في مصرف لبنان، لإظهار التحويلات الى الخارج التي أجرتها المصارف بعد 17 تشرين الأوّل، لكنه لم يَنل «جواباً كافياً وشافياً». وعلمت «الجمهورية»، أنّ «التيار» لم يتراجع عن اتخاذ الخطوة التالية في هذا الملف، وهي «ذات طابع قضائي» ضدّ مصرف لبنان «المسؤول عن تبيان هذه المعلومات»، وسيعتمد «التيار» هذا الإجراء القانوني في الوقت المناسب.
وإذ يشير بارود، أنّه «لا يوجد أي قانون يمنع إجراء التحويلات الى الخارج، أو يتيح للمصارف الإمتناع عن ذلك»، يؤكّد أنّ «هناك مسؤولية تترتّب على المصارف التي أجرت تحويلات مالية الى الخارج بعد 17 تشرين الأول 2019، لأنّها استنسبت في هذا الإجراء، بصورة مخالفة لمبدأ المساواة بين المودعين».
ويقول جابر: «بعد «كورونا» يجب توزيع المسؤوليات، ثمّ توزيع الخسائر».
حلول آنية وإستراتيجية
وفي إطار ضبط عمل المصارف والحلول الفورية و»الجزئية»، استخدم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الصلاحيات التي تمنحه إيّاها المادة 174 من قانون النقد والتسليف، وأصدر الأسبوع الفائت، تعميمين الى المصارف. يقضي أحدهما بإجراءات استثنائية حول السحوبات النقدية من الحسابات الصغيرة لدى المصارف، ويُمكّن أصحاب الودائع ما دون 5 ملايين ليرة لبنانية أو 3 آلاف دولار أميركي من سحب أموالهم نقداً وفق سعر الصرف في السوق لا سعر الصرف الرسمي، ويُعمل به لمدة 3 أشهر من تاريخ صدوره. أمّا التعميم الثاني فينصّ على إنشاء وحدة خاصة في المصرف للتداول في العملات النقدية الأجنبية وفقاً لسعر صرف السوق، ويُعمل به لمدة 6 أشهر من تاريخ صدوره.
وضمن الحلول السريعة، يقول بارود، إنّ «مصرف لبنان يُمكنه إصدار تعاميم عدة، كذلك يُمكن المصارف اتخاذ تدابير ضمن سقف قانون النقد والتسليف، ترفع تدريجاً القيود المفروضة بنحوٍ غير قانوني».
أمّا الحلّ المستدام فيكمن في إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بحسب ما يؤكّد بارود، ويقول: «قد تُجرى تصفية ذاتية لبعض المصارف ودمج مصارف بعضها ببعض».
ويشدّد على ضرورة أن «تأخذ الحكومة تدابير استراتيجية، وليس فقط تدابير يومية وقلمية، وأن تحدّد ما هو المطلوب من القطاع المصرفي، هل هو الاستمرار في إقراض الدولة التي لم تردّ ديونها، والاستمرار في سياسة الفوائد العالية مقابل جَذب الودائع لاستثمارها في مصرف لبنان؟ أم يجب أن يتوجّه عمل المصارف الى جذب الودائع، لإقراض القطاعات المنتجة في المقابل، وبفوائد معقولة؟». ويُؤكّد بارود: «أنّه يجب خفض الفوائد الدائنة والمدينة على حدّ سواء، الأمر الذي يُنعش القطاع المصرفي».
أمّا الحلّ بالنسبة الى مصادر معارضة، فيكمن في خطة اقتصادية إنقاذية سياسية ومالية وإقتصادية متكاملة وشاملة، لا جزئية، ومن دون المس بالملكية الفردية التي يحميها الدستور اللبناني ويكفلها. وتقول: «يلهون اللبنانيين بالتصويب على المصارف، فيما أنّ هيمنة «حزب الله» على البلد هي التي جَلبت العقوبات التي أثّرت على المصارف وتسببت بالأزمة الإقتصادية، ودمّرت كلّ علاقات لبنان السياسية والإقتصادية مع الخارج».
وترى هذه المصادر، أنّ «المحاسبة يجب أن تطاول المسؤولين في الدولة والحكومات المتعاقبة، التي أساءت الأمانة، وبذّرت الأموال التي اقترضتها من المصارف، وهي أموال المودعين».
تداعيات السقوط
حتى الآن، يقول خبراء إنّ المصارف تعاني أزمة سيولة لا أزمة ملاءة، لكن هناك تخوّفاً، إذا لم تُدر الأزمة مثلما يجب، من الوصول الى توقّف المصارف عن الدفع، إذ عندئذٍ ستصبح حقوق المودعين في مهبّ الريح، وسيدخل لبنان في دوامة خطيرة مختلفة. ويقول بارود، إنّ «الخوف من أن يتهافت المودعون دفعة واحدة الى المصارف لسحب أموالهم، يبرّر بنسبة معينة ضبط السحوبات ووضع سقوف للتحويلات»، مشيراً، أنّ «هذا التهافت أدّى الى سقوط بنك إنترا عام 1966»، ولذلك يجب إقرار قانون يحفّز القطاع المصرفي على النهوض، وإقرار تدابير حكومية وتشريعية تحمي القطاع من السقوط، ويكون همّها وهدفها الأساسيين الحفاظ على أموال المودعين».
من هذا المنطلق، ومن باب الحرص على حقوق المودعين أولاً، تتمسّك جهات سياسية عدة بعدم سقوط القطاع المصرفي، على رغم تأكيدها ضرورة ضبط عمله، إذ إنّ هذا السقوط لا يُشكّل خطراً على أموال المودعين فقط، بل يُدخل لبنان في نفق مُظلم، خصوصاً في ظلّ تفاقم الأزمة الإقتصادية جرّاء تداعيات وباء «كورونا».
تعليقات: