سهى بشارةهي ابنة دير ميماس، القرية الحدودية التي لطالما اعتُبرت قلعة من قلاع اليسار اللبناني
تأسرني سهى بشارة بسماحتها، بساطتها، وشجاعتها، وهي التي نظرت في عينيّ العميل أنطوان لحد وزرعت رصاصتيها في صدره وجلست في منزله تنتظر من يقلّها إلى جحيم معتقل الخيام بعد أن رفضت لقب زهرة الجنوب الذي اقترحه عليها مدرّبها في جبهة المقاومة الوطنية لأنها ببساطة لا تحفل للألقاب.
تقول سهى في مذكراتها: ولمّا كنت طالبة شيوعية ومتحدرة من عائلة مسيحية أرثوذكسية، إلا أنها لبنانية في الصميم، ألفيتني منخرطة في الحرب منذ مراهقتي المبكرة ضد كل ما يجسد هذا الوجود الغريب في أرضي.
سهى هي ابنة دير ميماس، القرية الحدودية التي لطالما اعتُبرت قلعة من قلاع اليسار اللبناني. دير ميماس التي عندما هُجِّر أهلها في النزاعات الأهلية عشية الحرب العالمية الأولى ولجأوا إلى صيدا استقبلهم رئيس الجالية اليهودية في صيدا المهاجر الروسي بنحاس نعمان وأراد الإنفاق على بعضهم من مال اللجنة الصهيونية ليس لفائض انسانيته، بل لفائض خبثه وخططه لمد جسور العلاقة مستقبلا مع أبناء القرى الجنوبية، وهو الذي حاول الحصول منهم على رسالة باسمهم تعبّر عن أملهم في أن يكافئ الله المحسنين اليهود بنجاح المهمة الصهيونية، وهو الأسلوب نفسه الذي اعتمده مع أهالي جديدة مرجعيون ومرجعيون وإبل القمح وقرى وفئات لبنانية أخرى كما ادّعى في مذكراته التي تركها للأرشيف الصهيوني.
تغرُق دير ميماس بين أشجار الزيتون وتغرُق أيضاً في الجرح الفلسطيني، وتقع على مرمى حجر من جديدة مرجعيون، حيث وُلد العميل عامر فاخوري، الذي كان في الجانب الآخر من جدران سجن سهى، والجانب الآخر من جدران خياراتها وانتمائها. الجانب الذي انتسب إلى خيار الاحتلال مدفوعاً بالعقل وليس بالبحث عن كسرة الخبز تأسيساً على خيار تاريخي معتل كان يرى في إسرائيل حليفاً طبيعياً إزاء صراع الهويات اللبنانية.
وُلد الإثنان، سهى بشارة وعامر الفاخوري، على مرمى حجر وقلب من فلسطين في منطقة كانت دوماً تسمّى في الخرافة الصهيونية الجليل الشمالي باعتبارها الجزء الشمالي من الجليل التوراتي أو فلسطين التوراتية. وكم حشد الجغرافيون التوراتيون من مزاعم وادعاءات بأن قبيلة نفتالي العبرية استوطنت مجرى نهر الليطاني وقبيلة آشر العبرية استوطنت منطقة صيدا، وكم بذلت الوكالة الصهيونية من جهود لضم هذه المنطقة إلى الوطن القومي المزعوم مرةً بمزاعم تاريخية ومرات بحجة ضمان سبيل الحياة والمياه لشمال فلسطين، لكن رقعة الشطرنج على طاولة السيدين فرانسوا جورج بيكو ومارك سايكس لتقاسم المناطق والنفوذ في منطقة الهلال الخصيب أحبطت هذه المخططات في بدايتها ليتولى بعدها المندوب السامي الفرنسي De Martel إسقاطها لاحقًا، وهو الذي لم يكن يريد لنار الاحتجاجات أن تنشب في نطاق نفوذه لتتحول بعدها الوكالة اليهودية إلى الخطة البديلة القائمة على الاستيطان السياسي والاجتماعي عبر نسج العلاقات مع جوار الشمال الفلسطيني المحتل حيث برز اسم مختار مستعمرة المطلة يوسف فاين وما حاول نسجه من علاقات مع الجوار اللبناني ومن كل التلاوين اللبنانية مكلّفًا من الوكالة اليهودية وعصابات الهاغاناه.
الجدل الذي حصل حول تهريب عامر الفاخوري متأخر، متعامٍ، وسطحي. فمنذ التحرير كرس القيمون على الدولة هذه المواطنة الملتبسة بين أبناء الجنوب المحرر. ولو غلّب عامر الفاخوري عقله على مخاوفه غداة التحرير في العام 2000 وقرر البقاء في لبنان والاحتماء بمظلة أحد الأحزاب النافذة لكان بإمكان سهى بشارة أن تراه من شرفة منزل أهلها يمارس رياضة المشي عصرا من مرجعيون حتى دير ميماس أسوة بالعشرات من أشباهه الذين تحولوا إلى مرجعيات محلية رفيعة الشأن.
غداة التحرير، التجأ العملاء، وهم من كل الطوائف، إلى طوائفهم تحت ذريعة الخوف من الأعمال الانتقامية. والطائفية تطغى على الوطنية لا بل تسقط مضامينها وأبجديتها. وأذكر كيف هرع رئيس الجمهورية الأسبق إميل لحود يومها إلى جزين ليعوض نقص شرعيته الطائفية عبر حماية العملاء وبسط رداء الشرعية عليهم وتنزيههم حتى عن المحاكمات العادلة، مقتبساً بشكل هزلي وممسوخ زيارة نيلسون مانديلا غداة خروجه ظافراً بعد ستة وعشرين عاماً في السجن إلى السيدة فرفورد أرملة سجّانه رئيس الوزراء الأسبق واحتسائه كوبا من الشاي معها لإرساء حد من الطمأنينة المستقبلية لبلاده (كما يستشهد أمين معلوف للدلالة على رفعة أخلاقه وحكمته)، وكذلك فعلت معظم القوى السياسية في باقي الطوائف التي شرعت باستبدال المصالحة العاقلة بمقايضة وضيعة وغير شريفة مع العملاء: ولاؤكم السياسي والأمني والانتخابي مقابل صك براءة عن كل شروركم وموبقاتكم.
قد يجادل البعض في أسبقية العدالة أو المصالحة في هكذا حالات، ولسنا البلد الوحيد الذي عاش اختباراً مشابهاً، لكن العدالة أُزهقت عبر الأحكام المخففة والمدبرة ذات ليل، التي صدرت حينها من المحكمة العسكرية تحت أنظار الدولة وبموافقتها وبدفع من القوى الممسكة بالقرار، وغض نظر من بعض تلك الناطقة باسم المقاومة حينها، والمصالحة أصبحت مستعصية في ظل هذه اللاأخلاقية السياسية التي يبدو من نتائجها السافرة أن بعض الألسن اللبنانية لا تزال حتى اليوم تلهج عالياً بعودة من يسمونهم بالمبعدين أي العملاء الذين هربوا إلى فلسطين المحتلة زمن التحرير، وعامر الفاخوري كان واحداً منهم.
ليس في السياسة فائض أخلاق، والتحالفات السياسية بما تكتنفه من مصالح تطغى على المبدئيات، خاصة وأن البنية العقائدية المؤسسة لمسلك أنطوان لحد وعامر الفاخوري باتت اليوم في صلب السلطة الحالية، لا بل في صلب التحالفات المؤسسة لها، ولا تخرج صفقة إطلاق فاخوري عن الأثمان المطلوبة لإدامة أمد هذه التحالفات، لا سيما في استحقاق الرئاسة القادم. وما الصراخ الشرعي الأخير المستنكر لتهريب الفاخوري إلا واحدا من تجليات هذه الخطيئة التأسيسية بطي المبدئيات لحساب المصالح الذي يبدو مسلكا مديداً.
يدان دونالد ترامب على فعلته بتهريب عامر فاخوري بطائرة تبخترت في الأجواء اللبنانية، لكن بمعيار الإدانة الحقيقية والأخلاقية ربما يأتي الرئيس الاميركي في آخر اللائحة.
(*) تنشر بالتزامن مع جريدة "الأنباء"
تعليقات: