مأساة مهدي عامل الثانية

اذا قُرئت مؤلفات مهدي عامل اليوم قرءاة نقدية، فالارجح أن الكثير منها لن يصمد. لقد دار الزمن دورات عديدة منذ اغتيال المفكر الراحل في أحد شوارع منطقة الظريف البيروتية في العام .1987 عشرون عاما، بالتمام والكمال، كانت حافلة بالاعاصير والاحداث التي حطمت أجزاء رئيسية مما كان مهدي عامل يراه ثوابت كونية.

ولم تعد الاحداث قادرة على أن تثبت «صحة توقعات» الحزب الذي انخرط فيه حسن حمدان وكان منظِّره الابرز بعد اندلاع الحرب الاهلية في العام .1975 لقد تسارعت الاحداث على نحو أطاح بكل التوقعات والاحزاب والعقائد التي نما في ظلها فكر آمن بصواب ما يذهب اليه، إيمانا يلامس الايمان الديني الغيبي. لكن الدقة تفرض علينا التمييز بين فكر مهدي عامل، أو بالاحرى مشروعه الفكري، وبين مؤلفاته الموضوعة. فهذه لا تختزل ذاك ولا تعبر عن مجمل الآليات التي أنتجته.

والحال أن الاشكاليات التي تناولها مهدي عامل في كتبه قد اختفت عن ساحة النقاش. فباستثناء حفنة من الايتام، لم يعد أحد يرى الى قوى «الممانعة» العربية الراهنة بصفتها قوى منخرطة في حركة تحرر وطني عربية هدفها الاول كسر الهيمنة الامبريالية والتصدي للرجعية العربية في المنطقة. بل ان الازمة في حركة التحرر الوطني العربية التي درسها مهدي عامل في كتابه «مقدمات نظرية»، قد تفاقمت وانقلبت الى شلل كامل فموت، أو الى ما هو في مقام الموت. وعلى سبيل الاستطراد، قد يكون من الاجدى اليوم التأمل في حال حركة التحرر العربية كنموذج تاريخي انتهى تأثيره وخرج من دائرة الفعل. فشكل التغيير في العالم العربي الذي كان يرى مهدي عامل أنه إما يكون ثورياً من خلال حركة التحرر الوطني تقودها أحزاب الطبقة العاملة، أو لا يكون، قد بات في عهدة قادة محجوبين في مغاور أفغانستان وصحارى العراق وغيرهما.

وفي موازاة الاشكاليات الفكرية السياسية التي طرحها مهدي عامل، ولم تعد قائمة موضوعيا، ربما يكون من المهم رصد إشكالية جديدة تتعلق بتحول ما كان يصفه مهدي «بالفكر الظلامي» الى فكر يزعم القدرة على قيادة البلاد الى الخلاص، مستدعياً الى موائد التحالف معه من كان يفترض أن يكملوا ما باشره مفكرنا الراحل. بل يحتكر ممثلو هذا الفكر الحق في توزيع الشهادات في الوطنية والعروبة في مشهد يليق بفصل من فصول العدمية الكافكاوية.

قد تكون هذه هي الاشكالية «غير المفكر فيها» هي التي يصح استئناف القول الفكري لمهدي عامل منها. إشكالية انقلاب مسيرة الشعوب العربية من التقدم الى النكوص أو «من النهضة الى الردة» (بحسب عنوان كتاب لجورج طرابيشي)، ردة عن المشروع الحضاري العربي القادر على مواجهة نقاط الضعف في خطابه مواجهة نقدية عقلانية، الى ظلامية تلبس لبوس الدين والعداء للآخر لمجرد أنه كذلك. وأكثر ما يسلط الضوء على بؤس القوى والافراد الذين يعلنون انتماءً لفظيا الى العلمانية، هو التبرير السياسوي للعلاقات مع قتلة مهدي عامل وحسين مروة وعشرات غيرهما. وكأن السياسة لا تعترف بالاثمان عن الجرائم ولا تحبذ أخذ القتلة الى المحاكم (ضمن معاييرها هي بطبيعة الحال).

أما من يستسهل الاعتقاد بإمكان الرفض الكامل لما طرحه مهدي عامل على مدى أكثر من خمسة عشر عاما وإقصائه، بذريعة أن العالم تغير وأن مهدي عامل و«مرشده الروحي» لوي التوسير قد اتخذا موقعهما في أحد هوامش المكتبات يعلو الغبار كتبهما، ونكرر هنا ان الكثير من مؤلفاته لن يصمد لقراءة نقدية، فصاحب هذا الاعتقاد السهل يتجاهل المبادئ الاساسية في الانتاج الفكري التي يقوم جانب منها على التراكم والنقد.

قتل مهدي عامل في مثل هذه الايام قبل عشرين عاما ولم تُحل قضية اغتياله الى المجلس العدلي وشملها قانون العفو الذي أنعمت به الجمهورية الثانية على أمراء الحرب ومجرميها. ولم تجر جلسة محاكمة واحدة لمتهم ولم يعرف مصير التحقيق في القضية.

حالة قتل غفل لإنسان غفل، لا هو من قادة الطوائف ولا من أمراء السياسة، حتى تتوتر الاعصاب ويرتفع نحيب الخنساء تطالب بالثأر لأخيها صخر. أستاذ جامعي، «مفكر»، قضى بعدما صدر قرار بإسكاته. والارجح أن من قرر تصفيته لم يقرأ حرفا واحدا مما كتبه حسن حمدان. ولعل هنا تكمن المأساة الاولى لهذا المفكر.

أما مأساته الثانية فليست في انهيار البناء الفكري الذي صرف عمره في تشييده والدفاع عنه، بل في أنه لم تتح له الفرصة ليقول كلمة في ما شهده العالم وخصوصا حركة التحرر الوطني العربية في الاعوام القليلة التالية التي أعقبت رحيله. ولن نذهب الى الاعتقاد ان مهدي عامل كان سيجد المخارج الفكرية من أزمة تلف العالم العربي ولبنان، لكن من الواجب الاخلاقي والسياسي حياله رفض إقصائه القسري والدموي عن الساحة والتمسك بحقه في ختام هادئ لرحلته الفكرية.

تعليقات: