صمتٌ إعلاميٌّ وسياسيٌّ مُلفِت ومريب واكب صدور قرار محكمة التمييز العسكرية برئاسة القاضي طاني لطوف بالإجماع يوم الخميس بقبول طلب التمييز شكلًا المقدّم من القاضي غسان الخوري في الحكم الصادر عن المحكمة العسكرية القاضي بكفّ التعقبات عن المتّهم العميل الياس الفاخوري، وردّه أساسًا وإبرام الحكم المطعون به الصادر عن المحكمة العسكرية الدائمة برئاسة العميد الركن حسين عبدالله.
حكم "العسكرية" الذي صدر في 16 آذار الفائت في قضية الفاخوري بقبول الدفوع الشكلية المقدّمة من وكلائه وضع هيئة المحكمة في قفص اتهامات بالجملة: رضوخ للضغوطات الاميركية، وتخوين لإبن الخيام العميد عبدالله والقيادة العسكرية، واتهام بتسييس القرار، ومطالبة بالمحاسبة... حتى حزب الله لم يسلَم من سهام الانتقاد حيث وَجد نفسه أمام أصدقاء وحلفاء يحمّلونه مسؤولية إطلاق سراحه الأمر الذي دفع أمين عام حزل الله السيد حسن نصرالله الى مخاطبة هؤلاء بلهجةٍ قاسيةٍ والدعوة لتشكيل لجنة تحقيقٍ نيابية وقضائية لم يتمّ تبنيها لاحقًا من أي طرفٍ سياسيٍّ أو غير سياسيٍّ معني بالقضية. "هستيريا" كُتِمت أنفاسها بعيد صدور قرار محكمة التمييز الذي صادق على قرار المحكمة العسكرية بكفّ التعقبات عن الفاخوري. صمتٌ مريبٌ غير متناسبٍ مع حجم الضجة التي أثيرت مع إطلاقِ سراحِ عميل الخيام وكأن "فضيحة" لم تكن!!
حتى اليوم لا يزال العميد الركن حسين عبدالله الذي أعلن قرار تنحيه عن رئاسة المحكمة بعد موجة الانتقادات ضد قرار المحكمة يداوم في مكتبه.
وعلم "ليبانون ديبايت" أن المجلس العسكري في قيادة الجيش مدّد لهيئة المحكمة العسكرية، رئيسًا وأعضاءً، حتى نهاية العام، من دون الركون الى تعيين ضابطٍ آخر مكانه، ما يعني بشكلٍ غير مباشرٍ عدم التجاوب من جانب القيادة العسكرية مع طلب التنحي وتأمين نوعٍ من "الحصانة" لضابط وهيئة محكمة عسكرية حكمت بالقانون بعيدًا من أي اعتباراتٍ سياسية.
عمليًا، لم يكن الفاخوري سوى "رقمٍ" إضافيٍّ في سلسلة أرقام لعملاء استفادوا من ثغرة فاضحة في القانون اللبناني بمرور الزمن العشري على وقوع الجرم، وفق المادة 10 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
تقصيرٌ نيابيٌّ فاضحٌ على مدى العقود الماضية توجب المساءلة عنه عبر غضّ النظر عن تعديل قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية لجهة سقوط جرائم العمالة بمُرور الزمن.
وقد توّج هذا التقصير بتجنّب مجلس النواب في جلسته التشريعية التي عقدت على مدى يومين في الأونيسكو بطرح تعديل القانون لقطع الطريق أمام إستفادة العملاء من مرور الزمن العشري. لا بل الفضيحة الأكبر أن قانون العفو الذي تمّ ترحيله مجددًا الى اللجان النيابية ارتكز على تخفيض العقوبة لكل الجرائم المستثناة من قانون العفو بما في ذلك جرم العمالة!!
قبل ذلك، بعيد توقيف العميل الفاخوري بعد دخوله لبنان لم تأخذ لجنة الإدارة والعدل في جلستها في كانون الثاني الماضي باقتراح تعديل القانون المقدّم من النائب علي خريس بعدم إسقاط جريمة التعذيب بالتقادم ومع مفعول رجعي!
وقد أتى قرار محكمة التمييز برئاسة القاضي طاني لطوف وعضوية المستشارين العميد خالد زيدان، العميد الركن جورج عكاري، العميد المهندس إيهاب شانوحه، والعقيد الركن جورج عبدو ليثبّت قانونية وصوابية القرار الصادر عن المحكمة العسكرية، كما جاء بمثابة ردّ اعتبار لرئيس المحكمة وأعضائها لجهة الأخذ بالأسباب الموجبة التي استندت اليها المحكمة العسكرية في حكمها بكفّ التعقبات عن الفاخوري لسقوط دعوى الحق العام بمرور الزمن العشري.
وقد استند قرار محكمة التمييز بردّ طلب النقض بالأساس الى الآتي في معرض تفنيدها للأسباب التي قام عليها طلب النقض:
- السبب الأول إهمال إحدى المعاملات الجوهرية لعدم تلاوة القرار الإتهامي وكافة الأوراق مما يؤدي الى الإبطال، حيث جاء في قرار محكمة التمييز أن المحكمة العسكرية لم تكن ملزمة بما نصت عليه المادة 60 من قانون العقوبات لجهة تلاوة قرار الإتهام وسائر الأوراق قبل البتّ بالدفوع الشكلية التي أثارها المدعى عليه بواسطة وكلائه ويقتضي ردّ هذا السبب لعدم قانونيته.
- السبب الثاني أن القرار لم يتضمّن عناصر فرضتها أحكام المادة 70 قانون العقوبات تحت طائلة البطلان لجهة الأسئلة المطروحة والقرارات المتخذة بشأنها بالإجماع أو بالأكثرية، فكان ردّ التمييز "أن المحكمة العسكرية الدائمة وبعد ان أجابت على المسألة المطروحة أمامها لجهة قبول الدفع الشكلي لمرور الزمن العشري بالنسبة الى الجرائم المُسندة الى المتهم وإعلان سقوط دعوى الحق العام، لم يعد من ضرورة لطرح الأسئلة الأخرى، سندًا لنص المادة 67 ق.ع وحيث يقتضي على ضوء ما تقدم ردّ هذا السبب لعدم قانونيته".
- السبب الثالث: حصول خطأ في تطبيق القانون، حيث اكد قرار التمييز أنّه لا يمكن اعتماد مفعول آني للمعاهدات الدولية لجهة اعتبارها مصدرًا للتشريع خصوصًا عند تعارضها مع أحكام القانون الداخلي، بالرغم من التسليم بمبدأ تسلسل القواعد القانونية بل يبقى لزامًا على الدولة التي ارتبطت بمعاهدة دولية تعديل نصوص القانون الوضعي الداخلي، بما يتلاءم مع أحكام هذه المعاهدة".
وأكد قرار محكمة التمييز أن "المحاكم اللبنانية لا تستطيع حاليًا ملاحقة انتهاكات القانون الدولي الإنساني التي لا تخضع لمرور الزمن ولا تعتدّ بالحصانات الرسمية لأنه غير منصوصٍ عنها في قانون العقوبات، كما أن لبنان ليس صاحب اختصاص لممارسة الإختصاص الشامل".
واعتبر قرار المحكمة أنّه "لا يمكن تحميل المحاكم اللبنانية مسؤولية التقصير التشريعي المسؤولة عنه الدولة أخلاقيًا، لعدم مقاضاة مجرمي الحرب من خلال تعديل قانون العقوبات اللبناني لإدراج جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وعدم إخضاعها مبدأ مرور الزمن".
وأشار الى انّ "مرور الزمن الجزائي في القانون اللبناني، يتعلق بالنظام العام، وقد أكد المشرع اللبناني على تمسّكه به كسبب من أسباب سقوط دعوى الحق العام، عندما استثني من أحكام تعليق المهل في المادة السادسة من قانون العفو رقم 84/91، تعليق مهلة مرور الزمن على الجنايات المرتكبة قبل نفاذه، في حين أبقاها سارية المفعول على الحق الشخصي الناتج عن الجناية وهو بالتالي لا يخضع بدوره للقاعدة المحددة في المادة الثانية أصول محاكمات مدنية، ويكون القانون الواجب التطبيق هو القانون الداخلي اللبناني وتحديدًا أصول المحاكمات الجزائية، ويمنع بالتالي على المحكمة استبعاد نص قانوني نافذ بحجة تطبيق نص معاهدة وهذا ما استقر عليه الاجتهاد اللبناني عمومًا والمحكمة العسكرية خصوصًا لجهة تطبيق أحكام مرور الزمن وفق أحكام أصول المحاكمات الجزائية متى توافرت شروطه القانونية، وبالتالي تكون المحكمة العسكرية الدائمة قد أحسنت بتطبيق القانون لهذه الجهة ويقتضي ردّ هذا السبب لعدم قانونيته".
- السبب الرابع: الخطأ في تطبيق الأحكام القانونية لتحديد مهلة مرور الزمن العشري، فأكد قرار محكمة التمييز أن "المحكمة أحسنت في تطبيق القانون لجهة اعتبار الجرمين المنسوبين الى الفاخوري بالقتل ومحاولة القتل خلال انتفاضة الأسرى في سجن الخيام ما أدى الى وفاة الاسيرين ابراهيم ابو عزة وبلال سلمان ساقطين بمرور الزمن لانقضاء حوالي الثلاثين سنة على وقوعهما بالاستناد الى إثبات مادي أكد عليه القرار الاتهامي الصادر عن قاضي التحقيق العسكري بصراحة ووضوح لا لبس فيه وليس على قناعة ذاتية للمحكمة فقط".
أما بالنسبة الى تعذيب الأسير علي حمزة ومن ثم خطفه وإخفائه، فاشار قرار محكمة التمييز الى أن "التحقيقات التي أجراها قاضي التحقيق العسكري وإفادات الشهود الذين استمع اليهم، بيّنت أن المدعى عليه عامر الفاخوري أخرج علي عبد الله حمزة من المعتقل بسيارته وكان علي يلفظ أنفاسه الأخيرة، كما تبيّن من جواب مديرية المخابرات أن المعتقل علي عبد الله حمزة توفي في العام 1985، داخل سجن الخيام من جراء تعرّضه للتعذيب من قبل العملاء، ومن جواب المديرية العامة للأمن العام أن علي استشهد بعد تعرّضه للتعذيب في معتقل الخيام".
واعتبر القرار "أن عدم العثور على جثة الأسير علي عبد الله حمزة أو معرفة مكان دفنه لا يمنع المحكمة من الإستناد الى وقائع أخرى سواء مثبتة بتقارير أمنية أو مستقاة من أقوال شهود كانوا متواجدين عند تعذيبه ولفظه أنفاسه الأخيرة، أو من عدم ورود اسمه في جميع عمليات تبادل الأسرى مع اسرائيل وتحرير مجموع الأسرى من السجون الإسرائيلية لتحديد مصيره".
وخلص القرار الى "أن اجتهاد محكمة التمييز العسكرية استقرّ واستمرّ على اعتبار أن تقدير الوقائع يعود بصورة مطلقة لمحكمة الأساس التي تبني قناعتها على أدلة أو قرائن أو وقائع أو إفادات أو حتى استنتاجات تستخرجها من مجمل هذه الوقائع والقرائن والإفادات من دون أن تكون ملزمة ببيان الدليل على صحة قناعتها ودون رقابة من المحكمة العليا على صحة قناعتها. وحيث انه يقتضي على ضوء ما تقدم ردّ هذا السبب لعدم قانونيته".
ولذلك، قرّرت المحكمة بالاجماع قبول طلب التمييز شكلًا وردّه أساسًا وإبرام الحكم المطعون فيه.
تعليقات: