استشهاد الرجل العظيم خلود لروحه وإحياء لروح أمته!
وهذا هو شأننا مع فقيدنا الكبير مفتي جمهوريتنا اللبنانية الشيخ حسن خالد!
وقد زيّن للذين اغتالوه أنهم يقتلون لبنانه الذي أحب: لبنان الواحد، لبنان الروح، لبنان العقل، لبنان الحوار، لبنان الوفاق الوطني، لبنان المتحد القيمي الإنساني!
فإذا باستشهاده منبعث لوحدة شعب، تدفقت أفواجه وراء نعشه كالموج الهادر، وتهادت مواكب المعزّين به، ملتمسة روحه الزكية، ومعبّرة عن لوعتها، ما بين دار البطريركية في بكركي ودار الإفتاء في شارع ابن رشد!
فالداران صرح واحد لعبادة الله!
والداران محراب واحد لروح لبنان!
والداران محجّة واحدة لجميع أبناء لبنان وبناته في السرّاء والضرّاء!
هكذا أرادهما حسن خالد ونصر الله بطرس صفير أن تكونا!
وهكذا جعلهما استشهاد المفتي ووحدتهما مبادرة البطريرك التي لم يسبق مثلها من قبل!
فخسئ الذين أرادوا بقتل المفتي اغتيال لبنان!
وانبعث لبنان واحدا في الألم، وواحدا في افتقاد الأمل!
والشعب الواحد هو الذي توحّده الآلام والآمال!
وكما كان حسن خالد صوت لبنان الواحد في حياته، فقد أشرق نورا للبنان الواحد في استشهاده!
والشهداء يسقون ثرى هذا الوطن منذ عام 1975 حتى الآن.
أنهم يتجاوزون المئتي ألف ما بين قتيل وجريج.
وهم يؤلفون بنسبتهم إلى سائر أبناء هذا الوطن، الصغير بمبناه الكبير بمعناه، معدلا من أعلى ما قدّمت الشعوب من ضحايا في سبيل حقها في الوجود!
وقد حان لنا أن نصمّم على أن يكون حسن خالد كبير شهدائنا آخر ضحايا مأساتنا الفريدة في التاريخ الإنساني.
فبذلك تكون لوعتنا عليه صادقة.
وبذلك لا يوحّدنا الألم لفقده يوما بل يؤلف بيننا دهرا…
وبذلك نكون أوفياء حق الوفاء لرسالته…
ورسالته إحياء لبنان لا اغتياله.
وشهادته هي تذكرة مدوية لنا بكل من سبقه من شهداء الوطن.
وهي إنذار لنا بأننا إذا استرسلنا في ما نحن فيه، فان لبنان نفسه سيكون الشهيد الأكبر!
وليس الشهيد أمام الله وأمام الموت كبيرا أو صغيرا!
فكل الشهداء أحياء عند ربهم ومخلّدون!
لكن الشعب لا يقدّم الشهداء، ليشتري بهم الموت، بل ليفتدي بهم حريته، وكرامته، ووجوده!
ونحن نقدّم الشهداء منذ عام 1975، لنشتري بهم العدم لا الوجود.
لكن استشهاد حسن خالد، وهو ينذرنا بالخطر الذي يدهمنا، يذكرنا بأن الوجود أقوى من العدم، وبأن الحب أقوى من الموت.
ويتوقف علينا نحن أن نختار بين الوجود والعدم، وبين الحب والموت.
فليس لأحد أن يختار لنا إلا ما نختاره نحن لأنفسنا.
والزلزال الوطني الذي هزَّ كل شعبنا لاغتيال مفتيه الوحدوي أسفر عن حقيقة لبنان الواحد التي غشيها الضباب، وجاء استفتاء لاختيارنا جمهوريتنا الصلبة الواحدة تنسخ كل ما فرض علينا من كيانات هزيلة، وتجتاح كل ما أقيم دون تواصلنا من حواجز رقيعة!
وليس شهيدنا الكبير أول من حاولوا أن يغتالوا بقتله وحدة وجودنا، وأخفقوا في محاولتهم!
فقد سبقته إلى الشهادة نخبة من قادتنا كان لكل منهم مشروعه التاريخي لإحياء لبنان!
وكان منهم من حاور، وكان منهم من حارب في سبيل مشروعه.
ونحن نلتزم التحاور لا التحارب.
لأن في التحاور إنسانيتنا وروحيتنا وعقلانيتنا وفي التحارب بين المواطنين والإخوان همجية نرفضها رفضا باتا.
وهؤلاء القادة اختلفوا في مشاريعهم، وفي رؤاهم، وفي حواريتهم أو عنفيتهم، لكنهم استووا أمام مصيرهم المأسوي الواحد، أمام الحكم عليهم بالإعدام، اغتيالا لهم ولمشاريعهم الإحيائية!
وإذا شئت أن تغتال شعبا، أو أن تعدم دولة، فابدأ بإعدام قادتها التاريخيين!
وأيا كانت نظرتنا إلى مشاريع هؤلاء القادة، وأيا كان تقويمنا لرؤاهم، فان روح حسن خالد تنادي شعبنا أن يقف وقفة وطنية واحدة، وقفة إنسانية واحدة في وجه جلاديه صارخا بصوت واحد:
كفاني اغتيال وإعدام لقادتي!
أريد الوجود لا العدم!
أريد الحياة لا الموت!
أريد الحب لا البغض!
أريد الحرية لا العبودية!
أريد وضع حد لحلقات العنف المفرغة، التي ابتدأت باختفاء موسى الصدر، أمام جمهورية المحرومين، وأحد روّاد الحوار الإسلامي - المسيحي.
وتبعه كمال جنبلاط المتطلع إلى جمهورية لبنانية تقدمية اشتراكية، والمناضل لتحرير الشعب العربي وسائر شعوب العالم الثالث.
ولحق بهما بشير الجميل، بعدما التزم جمهورية لبنانية موحّدة ودولة عصرية، لا سيادة فيها إلا للشعب، ولا حكم إلا للقانون.
وأدركهم رشيد كرامي المتفاني في سبيل الجمهورية الديمقراطية الوطنية، التي يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.
وكادت المؤامرة تلو الأخرى تنال من سليم الحص سلّمه الله، وهو داعية الدولة العادلة القادرة، ومهندس هذه الدولة بالتحاور لا بالتقاتل، وبالعلم لا بالجهل!
وتوّج استشهاد حسن خالد محاولات الإخفاء واغتيال الشخصيات التاريخية، التي اتفق أو اختلف معها، وتعاون معها أو قاومها، وهو يبشّر بجمهورية لبنان الواحد، التي تسودها القيم العلوية الإسلامية - المسيحية، قيم التراحم والتحاب، ويتكامل مواطنوها المسلمون والمسيحيون في ظل الحرية والعدل والمساواة التامة في الحقوق والواجبات.
فهل تكون المصادفة وحدها هي التي جعلت قادة لبنان ذوي المشاريع الإحيائية، هم الذين يستهدفهم الاغتيال؟
وهل يكون من المصادفة أن الذين يحيق بهم الخطر، اشد الخطر، هم القادة الذين يلتزمون العقل، ويستنكرون العنف، ويعتمدون التحاور، ويستهجنون التقاتل، منهجا لتسوية الأزمة اللبنانية؟
أن استشهاد مفتينا يحرّك أسى في نفوسنا لم نعان مثله من قبل!
انه الأسى لفقداننا الأخ الصادق، والهادي الراشد، والقائد الرائد.
لكنه في الآن ذاته أسى التساؤل عن مصير لبنان، إذا كانت قوى منظورة وغير منظورة تلاحقنا بإحكام إعدام لكل قائد لمشروع أحيائي لجمهورية لبنانية، ولديمقراطية لبنانية جديدة؟
وإذا كانت هذه الأحكام تنفذ حكما بعد الآخر، وتطبق على شخصية قيادية بعد الأخرى، فمن الذي سيلغيها من قبل أن تلغي لبنان، بإلغاء قيادته التاريخية؟
إن الذي يلغيها هو أن نتحرر من النظرة الفئوية، التي تعتبر كلا من هؤلاء الضحايا شهيدا لفريق منا دون الأخر، وان نعتبرهم جميعا شهداء لفريق وطني واحد هو الشعب اللبناني.
وان الذي يلغيها هو أن نصدر حكما أجماعيا على الاغتيال السياسي، فلا نغضب له إذا أصاب من نتفق معه في الرأي، ونصفق له إذا تعرّض له من يخالفنا في الرأي، بل ننبذه ونحرمه على الجميع وللجميع كأداة للعمل السياسي العام. وان الذي يلغيها هو أن تعلن جميع قوانا السياسية، إننا اكتفينا بأربعة عشر عاما من التقاتل الغابي، وأننا سنتعامل بعد الآن، في ما بيننا، وسنسوّي كل منازعاتنا بالحوار الحضاري!
وان استشهاد فقيدنا الكبير هو دعوة لنا لمثل هذه القرار الوطني الإنساني الذاتي، الذي لا نبلغه بتعريب أزمتنا أو بتدويلها، بل «بأنسنة» أنفسنا، و«أنسنة» سلوكنا السياسي!
إن هذا القرار هو الذي سيجعل كبير شهدائنا آخر شهدائنا!
أن هذا القرار هو الذي يحول دون سقوط لبناننا شهيدنا الأكبر كما يريده أعداؤه أن يكون!
نحن الآن في ثورة انفعالية جامحة احتجاجا على الاغتيال الوحشي لمفتي جمهوريتنا.
وستتبخر هذه الثورة بعد حين أن لم تتبلور في ثورة عقلانية على الأحوال الغابية والظروف العنفية، التي جعلت الاغتيال أمرا عاديا، وأتاحت لأي جان أن يقترفه، من غير أن يعرف من هو، ومن غير أن يتوقع حسابا، أو أن يخشى عقابا!
انذرنا أرسطو، بان الإنسان خارج الدولة وخارج القانون هو أسوأ سلوكا من وحش الغابة.
وهذا ما يصدق علينا الآن في لبنان!
وهذا ما كان يناضل حسن خالد لتحريرنا منه.
وكان يحاور الجميع للتوصل إلى صيغة التحرير والوفاق الوطني والعيش الحضاري!
وقد شهدته يتحاور مع إخوانه الرؤساء الروحيين للطوائف اللبنانية.
ويتحاور مع نخبة من الرؤساء السابقين للجمهورية والحكومة ومن قادة الفكر والسياسة في جلسات دورية دامت عاما أو يزيد.
ويتحاور مع إخوانه أعضاء المجلس الاستشاري لدار الإفتاء.
ويتحاور مع رؤساء للدولة والحكومة في لبنان وبعض العواصم العربية.
فكان هو نفسه، في جميع هذه المناسبات، المحاور في حق جمهوريتنا في أن تكون، وفي أن تكون لجميع أبنائها على السواء.
وكان هو نفسه المحاور المعبّر بالمنطق عن قناعاته، والمنفتح الذهن في إصغائه المهيب إلى قناعات الآخرين.
وبلغ من انفتاحه الذهني انه ترأس بنفسه محاورة في دار الإفتاء حول علاقة الإسلام بالعلمانية.
وكانت المؤتمرات الإسلامية، التي تعقد في دار الإفتاء، كما وكان يكلّف إخوانه في المجلس الاستشاري لدار الإفتاء مهمات لدى جميع قادة لبنان السياسيين، لا فرق بين مسلمين ومسيحيين!
إن الذين اغتالوا شخصه لم يدركوا أن مثل هذا التراث الروحي والوطني لفقيدنا الكبير، ولم أذكر هنا إلا عناوينه، هو حي في نفوسنا، ولن يستطيع أحد أن يغتاله أبدا.
ونحن نشيد بهذا التراث، لا لنوفي فقيدنا العزيز بعض حقه علينا فحسب، بل لنذكر مواطنينا، بأن وعيهم روح هذا التراث، والتزامهم مبادئه، يمكن أن يوجهاهم نحو بداية جديدة للبنان جديد.
إن اللبنانيين الذين زلزلهم استشهاد حسن خالد هم أنفسهم المدعوون إلى الاهتداء بروح هذا التراث.
وهو كتاب من أروع ما في تراث لبنان!
لأنه كتاب عنوانه الأزلي:
«الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
* المصدر: مؤسسة حسن صعب للدراسات والأبحاث."امانة السر - محمد درويش.
* حسن صعب مفكر لبناني راحل، كتب هذا المقال في 24 أيار 1989.
تعليقات: