«خطران» حدّدهما مايك بومبيو عنواناً لزيارته الأخيرة لإسرائيل: إيران و»كورونا». ولكنّ بين «الخطرين»، بالمنظور الأميركي، ثمة ما لم يحكَ إلّا بشكل هامشي، خلال اللقاءات التي أجراها مع القادة الإسرائيليين: الوضع في سوريا و«صفقة القرن».
استثنائية جاءت زيارة رئيس الديبلوماسية الأميركية، الذي يصح وصفه بالتسمية التي غالباً ما تعتمدها الصحافة الروسية والصينية والإيرانية- «الضيف السام».
هذه الاستثنائية تأتي في الشكل والتوقيت، على النحو الذي يطرح أكثر من علامة استفهام حول ما حيك فيها من تفاهمات.
في الشكل، بات واضحاً انّ «الديبلوماسية الأميركية» لم تلتزم بالحَجر الصحي الذي فرضه فيروس كورونا على الحراك السياسي في العالم، والانغلاق داخل الحدود لم يمنع الولايات المتحدة من خرق هذا النمط، طالما أنّ الداخل فيها، مع بدء العدّ التنازلي للانتخابات الأميركية، متقاطع بدرجة غير مسبوقة مع الخارج، إن في ما يخصّ الصين (اقتصادياً) أو إيران (سياسياً).
أما في التوقيت، فإنّ زيارة بومبيو تأتي في ظل متغيّرات كبيرة في اسرائيل. قبل أشهر، تحديداً في تشرين الأول الماضي، زار الوزير الأميركي اسرائيل في معرض ترويجه لخطة دونالد ترامب للتسوية في الشرق الأوسط، والمعروفة بـ»صفقة القرن»، والتي كانت حتى ذلك الوقت قابلة للتحقق - بصرف النظر عن المعارضة الفلسطينية وبعض المعارضة العربية لها - حين كانت الآمال الأميركية معقودة على احتمال تجاوز بنيامين نتنياهو - الشريك الأول في هذه الصفقة - لمأزقه السياسي.
اليوم تغيّرت الأحوال، ففي إسرائيل حكومة ائتلافية جديدة، قد تجعل «صفقة القرن» قابلة للتحقق فقط في حالة واحدة، وهي تفريغها من النذر المتبقي للفلسطينيين فيها، بما يستجيب لمطامع أطياف «حكومة الوحدة الوطنية»، التي تبدو خليطاً بين يسار صهيوني - بكل ما تحمله كلمة يسار في إسرائيل من طموحات خبيثة في براغماتيتها - وبين يمين متحالف مع يمين متطرف بكل تلاوينه السياسية والتلمودية - وبكل ما تحمله كلمة يمين في إسرائيل من غطرسة.
هذا الواقع الجديد يتطلب من الولايات المتحدة أن تتعامل مع العِقَد الاسرائيلية بمنطقين سيتعاقبان على رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع، بموجب الاتفاق الأخير بين الليكود - وتحالف أزرق أبيض: منطق بنيامين نتنياهو، الذي بات الأميركيون على دراية واسعة بكيفية التعامل معه؛ ومنطق بيني غانتس القادم من المؤسسة العسكرية، والذي لم يسبق أن تعامل معه الأميركيون مباشرة.
بهذا المعنى، يصبح هدف الزيارة الأولى لبومبيو، بعد تشكيل الحكومة الاسرائيلية الجديدة، هو تلقف هذه المتغيّرات التي تتطلب مقاربتين متوازيتين لمحطتين، بدأت الأولى منذ تشكيل هذه الحكومة (قيادة نتنياهو)، وستبدأ المرحلة الثانية فيها بعد 18 شهراً (قيادة غانتس).
وإذا كان نتنياهو في «الجيب الصغير» اميركياً، كما يُقال، خصوصاً أنّه كان خلال جولات الانتخابات الإسرائيلية الثلاث الطفل المدلل لدونالد ترامب، الذي قدّم لحليفه كل ما يمكن أن يعزّز موقعه - ابتداء من اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل للسفارة الاميركية، مروراً بالاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، وصولاً إلى منح الضوء الأخطر لضمّ وادي الأردن وجميع المستوطنات في الضفة الغربية منذ عام 1967 - فإنّ تمتين العلاقة مع غانتس تبدو حاجة ملحة لسببين، أولهما أنّ الأميركيين سيتعاملون معه حكماً بعد 18 شهراً، وثانيهما أنّ هذه الفترة قد تصبح أقصر بكثير في حال لم يخرج نتنياهو خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة من مأزقه القضائي.
مما لا شك فيه، أنّ زيارة بومبيو ستفتح فرصاً لإدارة دونالد ترامب لتحديد قواعد التعامل مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وهو أمر سيتمّ بطبيعة الحال وفق شروط إسرائيل، كما جرت العادة، مع فارق إضافي، وهو أنّ ثمة ثمناً مطلوباً من قِبل ترامب في المرحلة المقبلة، مع العلم بأنّ ثمناً كهذا قد ينظر إليه الإسرائيليون باعتباره فرصة أكثر منه فاتورة سياسية.
أول هذه الأثمان سيتمثل في تحديد سبل الإدارة المشتركة للملف الإيراني، وهنا يبرز توجّهان متعارضان ولكنهما مكمّلان لبعضهما البعض. وإذا كان التعارض يكمن في أسلوب التعامل مع إيران، ومفهوم التشدّد تجاه الجمهورية الإسلامية لدى كل من نتنياهو وغانتس، فإنّ الرجلين تجمعهما غاية واحدة يسعيان الى تحقيقها كلٌ بحسب توجهاته. فنتنياهو مؤيّد لسياسة «الضغط الأقصى» المتبعة أميركياً ضد طهران، في حين يذهب غانتس ابعد من ذلك في ما يطرحه من إجراءات لإضعافها.
واذا كان كلاً من نتنياهو وغانتس مقتنعين - على الأقل مرحلياً - بضبط ايقاع التصعيد المباشر ضد ايران على الساعة الترامبية، وهو ما يدفع إلى الخلف السيناريوهات الاكثر تطرفاً، بما في ذلك شن عمل عسكري مباشر ضد الجمهورية الاسلامية، إلّا أنّ الحال ليست كذلك في ما يخصّ بالمواجهة مع الإيرانيين في سوريا.
في الأسابيع القليلة الماضية، صعّد سلاح الجو الإسرائيلي الهجمات على القوات والمصالح الإيرانية في سوريا. صحيح أنّ هذا النمط من الهجمات كان أمراً معتاداً خلال السنوات الماضية، إلّا أنّ ردّ الفعل الأميركي تجاهه يبدو اليوم مختلفاً. ففي السابق غالباً ما كان يأتي وزراء الخارجية الاميركيون إلى القدس المحتلة لاحتواء أجواء التصعيد الاسرائيلي في سوريا، استجابة لتفاهمات ما مع الأميركيين أو مراعاةً لظروف الميدان السوري. أما اليوم، فالرسالة التي حملها بومبيو إلى القادة الإسرائيليين بدت مختلفة، لتبدو عباراتها تعبيراً عن أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل حليفان ليس في السياسة فحسب، بل في زمن الحرب.
يكفي قراءة بعض مقتطفات من تصريحات بومبيو في اسرائيل لتأكيد ما سبق. الوزير الاميركي قال إنّ «على النظام الإيراني الانسحاب من سوريا، وقد أوضحنا ذلك أيضاً لنظام الأسد»، مضيفاً: «الشعب الإيراني يدرك أنّه يتمّ تبذير موارده المالية، وأنّ إيرانيين يفقدون حياتهم في سوريا، هذا ليس استخداماً جيداً للموارد، خصوصاً في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الإيراني بسبب أسعار النفط وفيروس كورونا».
ومن الكلمات المعبّرة ايضاً، التي تعكس فحوى التوجّه الاميركي، ما قاله بومبيو من أنّ «سياستنا بممارسة الضغط القصوى، كانت برأينا مفيدة، وساعدت في حرمان النظام الإيراني من موارد لنشر الإرهاب في كل العالم. ونأمل بأن يتخذ النظام الإيراني قراراً حكيماً، وينسحب من سوريا ويوقف فرض الإرهاب الذي أدّى إلى تحويل 6 ملايين شخص إلى مهجرين، وسبّب سقوط عشرات آلاف القتلى»، واعتباره أنّه «كلما كان الانسحاب الايراني من سوريا أبكر كان أفضل».
هذا التقاطع غير المسبوق في المقاربتين الأميركية - الإسرائيلية تجاه ايران، سيكون له ثمن آخر قد تضطر اسرائيل إلى تسديده. فالصراع المتجدد بين الولايات المتحدة والصين، المرشح لأن يكون عنوان المرحلة، قد يفرض على الإسرائيليين إعادة النظر في عقود اقتصادية كبرى مع التنين الصيني، الذي بات ترامب وبومبيو يعتبرانه عدواً «خبيثاً»، ومن هنا لم يخف الوزير الاميركي في القدس المحتلة دعوته إلى «حلفائه» لإعادة النظر في التعاون مع بكين في مجالي البنية التحتية والتكنولوجيا الفائقة، ومن بينها مشاريع كبرى قيد الابرام أو التنفيذ.
لم يصدر في إسرائيل أي ردّ مباشر على الدعوات الاميركية، إلّا ما قيل عن انّ نتنياهو استمع اليها ووعد بدراستها. ولكن القاصي والداني يعلم أنّ إسرائيل إن خُيّرت بين الصين والولايات المتحدة فستختار الأخيرة بالتأكيد.
ماذا يعني كل ما سبق؟ ببساطة لقد اختارت الولايات المتحدة المضي قدماً في المواجهة مرّة واحدة ضد ثلاثة أطراف: الصين أولاً، ايران ثانياً، وروسيا ثالثاً... وهي بذلك تريد أن ينال الشرق الأوسط نصيبه من الحرب الباردة - أو بالأصح الساخنة غير المشتعلة - بأدواتها الاقتصادية من جهة، مع هامش للعمل العسكري المحدود من جهة ثانية.
من المؤكّد أنّ سوريا ستكون الميدان المباشر للمواجهة الكبرى في الاقتصاد والعسكرة. ومن المؤكّد أيضاً أنّ التماهي الاسرائيلي- الأميركي في هذا الميدان سيسعى إلى إصابة اكثر من عصفور بحجر واحد. فالضغط الاقتصادي بدأ يتحوّل فعلاً إلى سلاح للمعركة التي بدأت بالفعل؛ وأمّا السلاح الحربي فسيؤدي قسطه، بشرط الإبقاء على حافة الهاوية دون الانحدار إليها.
لبنان ليس بعيداً عن كل هذه المتغيّرات. الضغوط الاقتصادية بدأت منذ فترة طويلة وهي مستمرة أكثر فأكثر في ظلّ الأزمة الحالية. والشروط السياسية لأي قرض لا شك أنّها ستكون في لبّ حرب المصالح الكبرى، كامتداد لسياسة «الضغوط القصوى»، إن في تضييق الحصار المالي من جهة، أو في وضع فيتوات على أية فرص تُطرح لبنانياً للتوجّه شرقاً... وإلى أن ترتسم ملامح الصراع الكبير - انفجاراً كان أم تسوية - تبقى كل الاحتمالات قائمة لبنانياً.
تعليقات: