تعرفت عليه فتى صغيرا عندما كنا ندرس في مدرسة برمانا العالية. لم يكن صاحب بنية بدينة أو طويلة، إنما كان نحيلا، معتدل القامة، لطيف المعشر، هادئ الطبع، تتماهى جديته مع روح النكتة، وصوابية الكلام.
لا تتبدل مواقفه مع تبدل الظروف والأشخاص، إنما تتبدى شفافية طبعه لمن يحاوره، أو من يستمع إليه. يتحاشى الجدال من أجل الوصول إلى خلاصة الهدف المشترك. إنه ماهر في الإستماع، وموجز، وواضح في الإجابة.
استمر تواصلنا خلال المراحل الدراسية الجامعية، حين تعلمت منه بصورة غير مباشرة، أن الوظيفة ليست شأنا حتميا لكل إنسان، وخاصة لأولئك الذين لا يريدون أن يستوعبهم الدوام، وروتين العمل الممل.
تاهل من زميلة الدراسة الجامعية، وأمضيا شهر العسل في أرياف اليمن مع الناس البسطاء الذين يواجهون شظف العيش.
تربى يتيم الأب، الذي اغتيل عام ١٩٥٨، ونشأ في كنف والدته مع شقيق وشقيقة، في مؤسسة تعنى بالأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة، أسستها والدته في بلدة برمانا، رغم كونها من ناخبي بيروت، التي ترشحت فيها على مقعد نيابي، ولم توفق بالوصول اليه، رغم حسها الإنساني العالي، وتفانيها في خدمة المجتمع، خارج القيد الطائفي، أو المذهبي، أو المناطقي.
كان هو الساعد الأيمن لوالدته، السيدة منيرة الصلح، في مؤسسة الأمل للمعوقين، التي تقع في بنايتهم الخاصة، التي رفضوا أن تكون مصدر رزق سهل من إيجارها وتامين حياة هنيئة للعائلة، بعيدا عن هموم الآخرين، إنما كانت الدعامة لنجاحهم، وتفانيهم، في خدمة من يشكون من إعاقات عقلية منذ ولادتهم.
مضى أكثر من ستة عقود على تأسيس هذه المؤسسة، ولم أشاهد السيد نسيب وحيد الصلح يتناول وجبة طعام واحدة لا تجمعه مع أبناء المؤسسة، بسطاء الروح الطامحين إلى التعلم من أجل دمجهم في المجتمع.
عانت المؤسسة من مشاكل مادية خلال الحرب الأهلية المشؤومة، وصبروا وصابروا، ولم تثبط من همم السيد نسيب، ووالدته، السيدة منيرة الصلح، التي طال عمرها حتى الماية عام كاملة، دون كلل أو تعب.
يشهد العالم اليوم انتشار الوباء الخطير، الذي أدى إلى توقف وإقفال كل المؤسسات، الكبيرة والصغيرة، وأجبر الناس على البقاء في الحجر المنزلي. غير أن مؤسسة الأمل لم تقفل، ولم يتوقف السيد نسيب عن مثابرته في خدمة هؤلاء التلامذة، بل إنه يحجر نفسه معهم، ومع الأساتذة، والهيئة الادارية، حتى أصبح المكان خلية نحل، يشارك فيها الجميع بالبرامج الترفيهية الداخلية، وفي صنع حلوى الاعياد، وتوضيب حبوب المواسم، على سبيل المثال لا الحصر، من أجل توفير دخل، ولو متواضع، لدمج التلامذة بالمجتمع حتى يكونوا منتجين وفاعلين.
تفرض الظروف الحالية القاسية التي سببها فيروس الكورونا على كل الناس، وعلى مؤسسة الأمل بالطبع، معاناة مادية قاسية، من شأنها أن تشكل خطرا على توفير قوت كاف لهؤلاء التلامذة الطيبين.
إنني، في هذا السياق، ادعو أصحاب الهمم والغيرة ونخوة الخير، إلى المبادرة والتفضل بزيارة مؤسسة الأمل للمعوقين، في برمانا، أو العمل على المساهمة الكريمة من اجل رفع الحاجة المادية عن هذه المؤسسة الاجتماعية الرائدة، وهم مشكورون مسبقا على مساعيهم الخيرة واياديهم الطيبة.
تعليقات: