كبير مذيعي إذاعة «الشرق» محمد السباعي: أوجع ما في العيد أن يُعايدَك من أفقرك، والأشدّ إيلامًا أن يُعايدَك من أذلّك، والأكثر وقاحةً أن يُعايدَك من يقتلك
«أوجع ما في العيد أن يُعايدَك من أفقرك، والأشدّ إيلامًا أن يُعايدَك من أذلّك، والأكثر وقاحةً أن يُعايدَك من يقتلك على عدد ثواني اليوم الواحد.. إلى مُفقرِنا ومُذلِّنا وقاتِلنا، دُمْنا لسكّينكَ خرافًا ونعاجًا حتى يقضي الله أمره.. وإلى المقتولين عبر إذاعة «الشرق» نقول: العيد المقبل، إذا قدّر الله، نكون نحن الغالبون، وهم هم المغلوبون».
بهذه الكلمات، هزّ كبير مذيعي إذاعة «الشرق» عرش سلطة جائرة عاثت في البلد فسادًا، بوقاحة، فأفقرت وجوّعت وشرّدت وذلّت شعبًا بكامله، بل وطنًا ما عاد يصلح للعيش، ففُكّت شيفرة كلماته بما ليس فيها، لتُقرر إدارة المؤسسة التي أفنى فيها عمره عملًا ووفاءً، استبعاده عن أثيرها، يرافقه مهندس الصوت محمود المصري، الذي كان على رأس الفترة، والذي أمضى بدوره سنوات عدّة في خدمة «الشرق».
إلّا أن كلمة الحق هذه لم ترق إلى آذان أوساط بيت الوسط، الذين تغافلوا عن أكثر من ثلاثين عامًا كان فيها محمد السباعي سوطًا مسلّطًا على كلّ من يُغرّد خارج السرب الوطنيّ، بل والمدافع الأشرس عن خطّ إعمار البلد، انتقاه الرئيس الشهيد رفيق الحريري قارئًا لبياناته ومُمَرِّرًا بكلماته الخارجة عن المألوف بحدّة صدقيّتها وعظيم وقعها وملامستها لجراح المستضعفين، الذين كان لهم رفيق الحريري يومها طوق نجاة من براثن أمراء الحرب.
تغافل المتغافلون عن ثلاثين عامًا ونيّف، لم يعرف فيها عدوّ أو صديق محمد السباعي، إلّا سيفًا للحقّ وكلمته، حارب فيه الرئيس الشهيد وبمقدماته النوعيّة وكلماته اللاذعة في وجه الظلم والظالمين، والمؤامرات والمتآمرين، والفساد والفاسدين، وولّاه على رأس النشرات الإخباريّة والبرامج السياسيّة، في أقسى الحروب الشعواء على خطّ رفيق الحريري، فكان الرجل الأمين على مدّخرات مواقف الرجال الرجال، حتّى جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي صدح فيه السباعي كما لم يسمعه أحد من قبل، بصوت أبكى قلب بيروت ولبنان يوم الاستشهاد الكبير، وتشييع الرئيس رفيق الحريري، وما تبعه من مهرجانات سنويّة حتى الماضي القريب، كان فيها صوت مذيع «الشرق» يُلعلع بشعاراتٍ جرَت على لسان الشهيد.
لم يتوقّف الأمر هنا، بل كان للرجل الوفيّ معارك كسر عظم، خاضها علنًا عبر أثير «الشرق»، في وجه مقاتلي الخطّ الوطنيّ والنهج الأزرق، لعلّ أبرزها محطة السابع من أيار الأسود، التي خطفت أنفاس البلد وخنقت معها أثير «المستقبل» و«الشرق»، قبل أن ينتشلها السباعي بصوته الجهوريّ.
هذه المعارك التي خاضها كبير «الشرق» جنبًا إلى جنب مع أوفياء الأزرق، لم يفقه المتغافلون أنّ عناوين النشرة الأخيرة «صاحبة الشأن والقضيّة»، تأتي أيضًا في سياقها، ليذهبوا إلى إلباسها ثوبًا ليس فيه، ففكّوا «الشيفرة» وفقًا لأهوائهم الشخصيّة وطموحاتهم المنصبيّة، متناسين أنّ سيف كلمة الحقّ الذي اعتاد السباعي حمله، ترافق دائمًا ودومًا مع سلاح آخر تمثّل على مرّ مسيرته، بقيمة مضافة، بأنّه كان صديقًا لسياسيين اعتاد العمل معهم، لكنّه لم يستزلم لأحد منهم يومًا، تحت شعار «من أحبّك صَدَقَك».
هذه الوقفات لكبير مذيعي «الشرق» لم تبدأ فقط مع الرئيس الشهيد، بل كانت له صولات وجولات من الحروب الإعلاميّة، رافقه فيها قلة قليلة من المقرّبين، والتي تمخّض عنها تحويل الإذاعة التي كانت تتمايل في آذان المستمعين في ضواحي باريس فقط، إلى إمبراطوريّة تضجّ فيها الأروقة العربيّة والعالميّة.
قبل «الشرق» كان لمحمد السباعي وقفات صدح فيها صوته، فلم يمرّ مرور الكرام، معلّقًا ومتابعًا ومغطيًا لحروب عربيّة وأزمات هزّت المنطقة والعالم، لعلّ أكثر ما يرنّ منها في الآذان حتّى اليوم، عبارته الشهيرة «لن تدخلوا بيروت»، التي تمايلت نغماتها مع أصوات المدافع التي كادت تفتك به، أيام اجتياح الاحتلال الإسرائيليّ للعاصمة اللبنانيّة.
من «لن تدخلوا بيروت» إلى «أوجع ما في العيد»، وما بينهما من رسائل وحكم، وعناوين ومقدمات، وتغطيات مباشرة وميدانيّة، كان محمد السباعي ولم يزل، صوتًا بالحقّ صادحًا، بالصدق متسلّحًا، بالوفاء قويمًا، وما هكذا يكافأ الأوفياء، الذين ما اعتادوا يومًا غدرًا أو خيانة، كما يُشبَّه لبعض «فاكّي الشيفرات».
تعليقات: