الرئيس نبيه بري
في خضم موسم الجنون الوطني الموزّع بين هلع الكورونا ومتلازمة الاكتئاب الاقتصادية، والتي أصابت في من أصابته، بعض النخب السياسية اللبنانية، مولّدة في أوساط بعض مكوناتها أفكاراً غريبة عن المنطق، وجانحة نحو مغامرات خطيرة، كان لا بدّ من صرخة تحذير تُحدث صدمة إيجابية أو سلبية في تلك الأذهان المهووسة بأجندات الماضي والحاضر المدمّرة.
هذه هي فحوى الصرخة التي أطلقها الرئيس نبيه بري في عيد المقاومة والتحرير، بكل ما تحمله الذكرى من معانٍ، لا تقتصر مفاعيلها على الداخل المثقل بكل صنوف الأزمات، بل تتعدّاها إلى ذلك الترابط العضوي بين ما يجري في لبنان وما يجري في محيطه الأوسع، وهو الترابط الذي بات بالنسبة إلى غالبية القوى السياسية أما ترفاً سياسياً في أفضل الأحوال وإما أمراً مسكوتاً عنه لغاية في نفس يعقوب.
رئيس مجلس النواب، الذي يُجمع حلفاؤه وخصومه، على حدٍ سواء، على أنّه يكاد يكون الرجل الوحيد القادر على ابتداع صمامات الأمان، في بلد محكوم بالنزعات الجنونية والنزاعات الشخصانية، نطق بلسان كل العقلاء الباحثين عن بوصلة في زمن الجنون والضياع، حين شدّد على انّ الأوان قد آن للبنانيين، والسياسيين جميعاً على مختلف مستويات صنع القرار السياسي، لوقف المضاربات السياسية، باعتبارها لا تؤدي إلّا الى نتيجة واحدة هي إرباك النظام العام؛ ووقف حفلات إلقاء التهم يميناً وشمالاً وتحميل المسؤوليات، في زمن يحتاج فيه الوطن إلى تحمّل المسؤوليات.
لكن ما سبق لا يستوي مع منطق أولئك الذين يقاربون شؤون البلاد والعباد بمنطق المحاصصة المدمّرة، أو أولئك المصطادين في مياه الأزمات الآسنة لتنفيذ أجندات الفتنة بكل امتداداتها الخارجية. او اولئك الذين يمارسون استعادة فظة لخطاب مقيت، تدميري للبلد وللنظام السياسي، يستنفر عصبيات الطوائف الأخرى، بكل توظيفاته المولّدة لأزمات أمنية وسياسية.
هذا ما جعل بري يقارب كل ما جرى ويجري في لبنان من خلال بوصلة فلسطين، التي فقدها كل العرب، وهو بذلك حدّد مساراً صحيحاً، لا ضلال فيه، للمضي قدماً نحو إنقاذ لبنان، على أساس نقطة الارتكاز في هذه البوصلة نفسها.
كان من الضروري، بحسب وجهة هذه البوصلة، أن يذكر بري بأنّ ما يُخطط للبنان اليوم يرتبط بدرجة كبيرة بالمشروع الجديد المسمّى «صفقة القرن»، تماماً كما ارتبطت كل أزمات لبنان بمشاريع لا تختلف في جوهرها عن المشروع الحالي، ابتداءً من خطة أيزنهاور في الخمسينيات، مروراً باتفاقيتي سيناء وكامب ديفيد في السبعينيات، ومؤتمر مدريد وملحقاته في التسعينيات، وصولاً إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد في مطلع الألفية الحالية.
انطلاقاً من المشروع الحالي، بما يحمله من أوجه شبه تصل إلى حدّ التطابق والتناسخ مع مشروع يهودية الدولة، بما تتطلبه من إضعاف للكيانات العربية وتشظية للمنطقة، يمكن فهم سبب خروج تلك «الأصوات النشاز»، التي بدأت تعلو، للمطالبة بالفدرالية أو بتغيير المنظومة الوحدوية للبنان بمسميات مختلفة.
إذا ما تتبع أي عاقل مسار الأحداث في لبنان منذ عام ونيّف، لما وجد صعوبة في الربط بين نقطة البداية في مسار الانهيار الذي نعيشه اليوم، وبين الإعلان عن «صفقة القرن» بشكل رسمي. كل ما اعقب هذا الحدث لبنانياً يمكن ان نجد له جذراً في الصفقة القذرة التي أطلقها دونالد ترامب وروّج لها جاريد كوشنر من محيط العرب إلى خليجهم.
سياسة الخنق المالي للدولة اللبنانية، من بوابة العقوبات الاميركية على «حزب الله»، ومحاولات ضرب القطاع المصرفي من البوابة نفسها، وأول فصولها كان قرار وزارة الخزانة الاميركية الذي طال مصرف جمّال، لم تكن مجرد خطوة ضاغطة فحسب. الهدف كان واضحاً لدى كثيرين، لم يجدوا من يقرأون مزمورهم عليهم، وهو ضرب الكيان اللبناني بالصيغة التي توافق عليها اللبنانيون في الطائف.
باختصار، كان الهدف المباشر يتمثل في ضرب ركائز الشراكة الوطنية بسلاح المال. فالتضييق الاقتصادي على الحاضنة الشعبية للمقاومة (الشيعية بشكل خاص) في الداخل كما في بلاد الانتشار، وتوجيه ضربة لما اعتُبر في نهاية ستينيات القرن المنصرم المنصّة الركائزية لانخراط الطائفة الشيعية في النظام المصرفي (مصرف جمال) - وامتداداً لذلك في الشراكة الوطنية بعد الطائف- لا يمكن فهمه إلاّ من خلال رغبة خارجية ما - اميركية - اسرائيلية بالدرجة الأولى - لتوجيه ضربة للنموذج اللبناني، الذي حافظ، برغم كل الضغوط، على معادلة «الشعب والجيش والمقاومة» التي يُنظر اليها اميركياً واسرائيلياً على انّها حجر عثرة أمام تنفيذ «صفقة القرن»، على الأقل في شقّها اللبناني، القائم اساساً على التوطين، الذي يستحيل تحقيقه في ظلّ المنظومة الضابطة للعقد الاجتماعي اللبناني، والتي كرّسها اتفاق الطائف والدستور المنبثق عنه.
ما أعقب ذلك من تطورات دراماتيكية في لبنان، سواء قبل انفجار الغضب الشعبي في 17 تشرين الأول وما بعده، كله كان يصبّ في خدمة الهدف الإقليمي. فما جرى في قبرشمون لم يكن مجرد حدث امني ولّده الصراع الجنبلاطي - الباسيلي، وقطع الطرقات في فترة الانتفاضة الشعبية لم يكن مجرد اداة احتجاج بريئة من المخططات التقسيمية القذرة.
بهذا المعنى لا يمكن الفصل بين المخطط الأساسي الذي حذّر منه بري وبين كل ما يُطرح من ترويج للفدرالية، سواء بشكلها الخشن المستوحى من مشاريع الحرب الأهلية، أو بوجهها المطلي بمساحيق التجميل البالية، سواء اتخذت شكل إجراءات مناطقية لمعالجة أزمات صحية ومعيشية بعيداً من منطق الدولة، أو عبر طرح صيغ مشوّهة للامركزية الإدارية تقوم بالأساس على منطق اللامركزية المالية.
كل تلك المشاريع المذكورة لا يمكن ان تتحقق الّا بإقفال الباب على الحلول البديلة، مع العلم، أنّ تلك الحلول البديلة قابلة للتحقيق في الواقع العملي في حال تمّ تحييد الأجندات الهدّامة.
وفق هذا المنطق، يمكن اعتبار ما طرحه بري في خطاب عيد المقاومة والتحرير بمثابة خريطة طريق يمكن ان تستقيم معها الأوضاع، ولو بالنفس الطويل، بدلاً من الجنوح الذي يسعى اليه البعض للذهاب بالبلد إلى هاوية الجحيم.
خريطة الطريق هذه هي تماماً ما يُطالب به أي لبناني حريص على إنقاذ وطنه، وقد حدّدها الرئيس بري بخطوات واضحة لا لبس في واقعيتها:
اولاً، إعادة انتاج الحياة السياسية انطلاقاً من إقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، يؤمّن الشراكة للجميع على قدم المساواة، وذلك ارتكازاً على قاعدة النسبية ولبنان دائرة انتخابية واحدة، وإنشاء مجلس للشيوخ تُمثل فيه كل الطوائف بعدلٍ ومساواة، إنفاذاً لما نصّ عليه اتفاق الطائف تمهيداً لدولة مدنية.
ثانياً، تحرير القضاء وانجاز استقلاليته من اي تبعية سياسية او طائفية، واطلاق سراح القوانين المنجزة والنائمة في أدراج الوزارات والتي لا تحتاج سوى الى إصدار المراسيم التطبيقية لها، وهي بالعشرات، والتي لو طُبقّت لما وصلنا الى ما وصلنا اليه اليوم.
ثالثاً، تحرير قطاع الكهرباء من عقلية المحاصصة المذهبية والطائفية والمناطقية الفيدرالية والكونفدرالية، والاسراع في تعيين مجلس إدارة جديد وهيئة ناظمة للقطاع، ارتكازاً إلى قواعد الكفاءة والاختصاص ونظافة الكف.
رابعاً، لا يُعقل ولا يجوز ان يبقى الأمن الغذائي والصحي ومصير جنى عمر اللبنانيين وتعبهم في الوطن وبلاد الاغتراب، رهينةً او ضحية لسياسات مالية ومصرفية خاطئة أو رهينة لجشع كبار التجار وبضع شركاتٍ احتكارية وفساد عشش في كل زاوية .
خامساً، تصحيح العلاقة مع سوريا وإيران والعديد من الدول العربية، ورفدها بكل وسائل التمكين والصمود باعتبارها اكثر من حاجة ضرورية.
سادساً، مغادرة محطة انتظار ما ستؤول إليه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والجهات الدولية المانحة، والانطلاق بعمل محسوس يلمسه المواطن القلق على عيشه ومصيره في كل ما يتصل بحياته وحياة الوطن، وانطلاق الحكومة بعمل ميداني بعيداً عن الخطط والبرامج الورقية.
أليس ما سبق هو ما يطالب به الكل في لبنان، حتى الفئات الأكثر جذرية في مطالباتها الإصلاحية؟ إذا كان الأمر على هذا الشكل - على افتراض انّ ما يُقال في العلن يطابق بالفعل ما في النوايا - فأضعف الإيمان ان تكون خريطة الطريق التي طرحها نبيه بري الملاذ الأخير لإنقاذ الوطن قبل ان يفوت الأوان!
تعليقات: