سجن رومية
نبني السجون لنخفي وراءها ملامح عجزنا عن الاصلاح، ونخترع الصواريخ لزيارة مجرات الدنيا من دون ان نفكر في زيارة سجون الوطن الرابضة في الحي الآخر. عود على بدء: قصة سجن رومية والمساجين الموجودين داخله، يعانون الاهمال والعذاب في ظل غياب أدنى مقوّمات الراحة والانسانية. ومن يقرأ التحقيقات السابقة منذ العام 2003 وحتى اليوم يزداد تأكيداً أن يوم السجين وأسبوع السجين وشهر السجين لم تجدِ نفعاً في تغيير واقع حاله التعس، بل أصبحنا نرى ما هو أشدّ هولاً في الاجحاف البشري: سجناء "قدرهم" التعذيب البطيء حتى الموت، او نكران كل ما هو جميل في العدالة والخير والمحبة. وهذا ما يبرّر الصدامات المتكررة داخله المترافقة مع تصريحات المسؤولين الرسمية المعترفة "ان سجوننا في حالة بائسة صحيا ونفسيا، وتضمن للسجين تخريجا مدججا بالحقد والنقمة بدل التوبة والاصلاح".
أفادت أجهزة الأمن اللبنانية أن أعمال شغب وقعت في سجن رومية – أكبر السجون اللبنانية – بعد ظهر الخميس 24 الشهر الفائت، مشيرةً الى أن المساجين يحتجزون عدداً من أفراد قوى الأمن الداخلي. وقال اللواء أشرف ريفي المدير العام لقوى الأمن الداخلي أن قوى الأمن تعمل على تحرير أفرادها المحتجزين ووقف اعمال الشغب، في حين أفادت معلومات صحفية انه تمّ استدعاء فرق من قوات مكافحة الشغب وقوات خاصة تعرف بـ "القوة الضاربة" وفرقة "الفهود" للسيطرة على تمرّد المساجين.
وعرف لاحقاً أن حركة التمرّد وقعت في ما يعرف بـ"مبنى المحكومين" حيث اندلع حريق أطفأته فرق الدفاع المدني. وانتهت حركة التمرّد عند الساعة الثانية من فجر يوم الجمعة باطلاق عناصر قوى الأمن السبعة واستسلام المتمردين بعد أكثر من تسع ساعات على أعمال الشغب.
ولكن ماذا في الرواية الأصلية لتمرّد سجناء رومية الذي سبقته احتجاجات مماثلة في سنوات سابقة؟
يحكى أن الحالة المزرية التي يعيشها السجناء على جميع الصعد الحياتية اليومية في مقر سجنهم، والحالة السياسية المنقسمة في البلد بما يعرف بـ"الموالاة" و"المعارضة" والتي يعاني خلافاتها السجناء كسائر أبناء الوطن في الخارج، أدّتا الى تأزم العلاقات في ما بينهم من جهة، وبين رجال الأمن من جهة أخرى. ويشاع أن التصادم حصل بين أحد أفراد الأمن المولج الاهتمام بهم على خلفية التمييز بين جماعته السياسية والجماعات الأخرى المؤازرة لقوى سياسية أخرى، فكان رجل الأمن يسمح لجماعته بالتنزه ولعب الرياضة، فيما يرغم الآخرين على البقاء في غرفهم. فحصل تلاسن شديد بينهم وبينه. ولما ذهب الأخير لاستدعاء زملائه، استطاع المساجين اقتحام المطبخ والاستيلاء على سكاكين وسواطير وتمكنوا على الأثر بمساعدة 200 آخرين من حجز رتيب وعريف وخمسة مجندين غير مسلحين (كما تقتضي قوانين السجون). ثم أشعلوا ثورة تمرّد في طبقات المبنى، فيما عمد بعضهم الى احراق فرش وأغطية وملابس عند الباب الرئيسي للمبنى.
رغم استقدام ثلاث سرايا من فرق مكافحة الشغب و"الفهود" وتطويق مباني السجن ليلاً بوحدات اضافية معززة، لم يتراجع السجناء عن تمردهم ولا عن احتجازهم للرهائن. ولكن بعد مضي تسع ساعات ونصف ساعة متواصلة من المفاوضات تولاها مسؤولون أمنيون وقضائيون بمساعدة الأب هادي العيا رئيس جمعية "عدل ورحمة" وأهالي المتمردين، توصلوا الى اقناع سجينين "يقودان" المجموعة المتمردة - أحدهما فلسطيني والآخر لبناني – القبول بالتفاوض نيابة عن رفاقهما . فتولى الحوار معهما أولاً قائد الدرك الاقليمي العميد أنطوان شكور ثم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي جان فهد، وليلاً المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي. حيث قدم السجناء لائحة بمطالبهم تضمنت:
- خفض العقوبات.
- احتساب السنة تسعة أشهر.
- تحسين ظروف المعيشة داخل السجن.
- تحسين المعاملة.
- تحسين وضع المواجهات العائلية اللائقة.
- تركيب آلات هاتفية.
- النظر في مسألة الاكتظاظ.
ولم يقبل السجناء باطلاق الرهائن والعودة الى الزنزانات في مقابل الوعود بالنظر في ملفاتهم، بل طالبوا بضمانات كافية لجهة عدم اللجوء الى القوة، وخصوصاً أن تعزيزات اضافية استقدمت ليلاً أخافتهم ودبت الرعب في نفوسهم. وبوشرت التحقيقات في الحادث فور عودة الهدوء باشراف القضاء المختص، منعاً لتكرار ما حدث.
قصص من الخيال
قصص كثيرة تجري داخل سجن رومية تؤكد حصول انتهاكات صارخة مستمرة لأبسط حقوق الانسان ففكرة السجن عموماً هي لتقييد حرية التنقل ولتأهيل المنحرف والمجرم، لكن ما يُمارس في سجون لبنان – وخصوصاً سجن رومية - يشكل اعتداءاً على الكرامة الانسانية، كما يلحق ظلماً شاملاً بالمحتجزين لا تفسير ولا أي مبرّر له.
من المتعارف عليه أن سجن رومية هو السجن المركزي في لبنان، لكنه مخالف لكل المعايير المعمول بها دولياً، من ناحية سوء التغذية ، وعدد السجناء في الغرف، وانعدام التدفئة والتبريد، وقلة النظافة، وغياب الأسرّة، واهتراء المراحيض، وعدم وجود مياه ساخنة، ....الخ. لذا يدعو البعض الى هدم هذا السجن وبناء آخر جديد يستوفي الشروط الضرورية في اشراف لجان دولية متخصصة.
كثر يتساءلون: "ترى ما الذي يحصل داخل سجن روميه المركزي المؤلف من خمسة أبنية متفرّقة ويمتد فوق رابية مساحتها 140 الف متر، بعلو 300 متر عن سطح البحر، ويبعد تسعة كيلومترات من العاصمة؟؟؟".
يستوعب سجن رومية 1200 سجين كحد أقصى، لكنه يضم أكثر من 3500 سجين باحصاءات غير دقيقة، فالعدد يتأرجح بين الزيادة والنقصان حسب التعداد اليومي بين الوافدين اليه والخارجين منه.
في الباحة الاولى للسجن ابواب كثيرة وغرف يتم فيها تسليم اغراض حملها ذوو السجناء الى اقاربهم. بالاضافة الى واجهة حديدية مشبّكة كتب عليها "ممنوع لمس الشبك"، تبعد السجين عن زائره مسافة نصف متر، مما يجعل من الصراخ الحل الامثل لإيصال الصوت الى الزائرين على كثرتهم، كما تصعب اي ملامسة ولو ودية بين المتواجهين.
نظارات اللولب
تقع "نظارات اللولب" في نهاية رواق طويل يفضي الى باحة دائرية تجمع هذه النظارات في بناء مسدس الاضلاع تتوسطه سلالم معدنية. واللولب مبنى يربط المباني كلها ببعضها، يوجد فيه موقوفون ومحكومون. ويشهد اكتظاظا مخيفا، فتجد في نظارة واحدة معدة لاستقبال 50 سجيناً 150 سجينا، يندر لولا مشاهدتهم تصوّر "الكبيس البشري" الحاصل، فهي لا تتسع لهذا العدد من السجناء وقوفا... فكيف ينامون؟
ينام السجناء فيه بشكل مستقيم ومتعاكس، أي يكون رأس الاول محاذيا لقدمي الثاني، حتى تمتلئ ارضية الغرفة بالاجساد، وهذه العملية تسمى بـ"التسييف" اي النوم كالسيف او كالجثة، ومن يحاول النهوض قاصدا الحمام او الشرب او التدخين، لن يجد مكانا حتى طلوع الصباح. (هنا نذكر عدم توافر الأسرّة أو البطانيات، باستثناء بطانية صوف واحدة تقي السجين برد الارض في فصل الشتاء).
قصة دخول الحمام مأساة في ذاتها وانتظار الأدوار تباعاً، والامر الاكثر درامية حين تكون المجاري مسدودة وعلى الـمساجين انتظار الفرج وتحقيق الوعود.
عملية غسل الثياب، حكاية اخرى، تتم داخل حمام النظارة ثم يتم نشرها على النوافذ والجدران والابواب لتزيد من رطوبة المكان والبرد، وخصوصا في فصل الشتاء، حيث التدفئة غائبة كغياب الزجاج عن النوافذ والمنافذ.
يروى ان "نظارات اللولب" لم تبنَ لتكون على ما هي عليه اليوم، بل كانت مخصصة لتضم مشاغل كالحدادة والنجارة... او لتكون قاعات محكمة توفر على السجين والسجان عناء التنقل عبر المناطق لكنّ لضرورة الازدحام... احكامها!!
سجن الأحداث
يقع في الطبقة الاعلى من السجن ويعتبر مرفها نسبياً مقارنة بالأماكن الاخرى لجهة تزويده بالاسرّة. (من دون فراش). يضم عدداً لا بأس به من الأحداث موزعين بحسب تقارب اعمارهم على الغرف (4 او 5 في الغرفة الواحدة). قصص انحرافهم المنشورة في اكثر الصحف تشير الى قاسم مشترك يربط بينهم: الفقر والجهل والبطالة والتفكك الاسري.
بعضهم كان طفلا منذ اربع سنوات، لكنه شهد في المرحلة الاهم لتبلور شخصيته ما يشيّب شعر الرأس من عنف وقسوة واهمال. وهم بذلك يمثلون جيلا جديدا من ضحايا ترعرعوا في مجتمع يعاني الهستيريا والقلق والنقمة والغضب.
العصفورية
دقائق عدة داخل "عصفورية" رومية كفيلة بإصابتك باولى علامات العصاب. فالمبنى معتم جدا ولا مبالغة في القول ان جدرانه مطلية باللون الاسود وبعض رسوم حزينة. معظم المحتجزين فيه غرفهم موصدة، لا يزورهم احد، ولا يتذكرون قصة حياتهم او ما اوصلهم الى هنا.
بعضهم قد يكون دخل السجن ظلما ونال عقوبة لا يستحقها، ولما اصابته "كريزة" في ربع المدة التي أمضاها وُضع في مكان منعزل من دون الخوف من حالته على نفسه، علما ان ايام العزل الطويلة لمريض نفسي في حاجة الى الحنان، تزيد من خطورة تدهور حالته، فيبقى اعواما طويلة في "العصفورية".
منهم من كان له شأن مهم في المجتمع، فأراد المستفيدون من الارث او غيرهم زجهم في السجن ثم "العصفورية"، ليتخلصوا منهم بأسرع السبل.
الزيارة معدومة، اما الحنين فلا نعرف؟ لا يستطيعون اخبارك شيئاً: لا عن نوعية الاكل، ام اذا كانوا يأكلون اصلا ام يصادر "الخدم" أكلهم؟ هل يضربون؟ هل يمرضون؟ هل يشكون؟ اسئلة بقيت من دون اجابات.
الجميع يرتجف، ربما بردا، وربما بسبب الادوية التي أرغموا على تناولها.
أشباح يمكنك ملامستها تتمشى في الرواق، وجوه واجمة ونظرات خاوية خلف الابواب المقفلة وحكايات موجعة لبعضهم.
الداخلون خلسة
وهم يُعرفون بالرهائن أو العبيد، وهم من جنسيات آسيوية، حكم عليهم بالسجن لمدة بسيطة لا تتجاوز الشهر، لكنهم مسجونون الى الأبد على ما يبدو، من دون اخلاء سبيل. وهناك أيضاً عدد غير معروف من اللبنانيين ضمن هذه الفئة. وعليه، فان أوضاع هؤلاء البائسين تؤلف انتهاكاً صارخاً لحقوق الانسان . فهم باقون قيد السجن بأعذار سخيفة منها: عدم تسديد الغرامات، في حين أن أكثرهم يملك مالاً في صندوق الأمانات في السجن، لكن لا يسمح لهم بالسحب منه قبل احضار أحد الأقرباء أو محام وقبل اعطائهم تفويضاً خطياً لسحب المال ودفع الغرامة، ما هومستحيل على الأجانب في بلدنا. كما هناك فئة أخرى لا تملك المال لتسديد رسوم الاقامة أو دفع ثمن بطاقة السفر الى بلادها الاصلية. ويبقى ان نلفت الى معاناتهم، اولا: بسبب اهمال سفاراتهم لهم وعدم معرفة ذويهم امكنة وجودهم اصلا. (الرسائل ممنوعة، واذا كتبت فمرفوضة).
ثانيا: كونهم يمثلون "الحلقة الاضعف" داخل السجن، فهم يقتاتون من "موائد" الآخرين المتنعمين بزيارة ذويهم، ويُرغمون على تقديم خدمات بديلة تسمى "العوض" كغسل الثياب وحك الظهر والماساج وتنظيف الامكنة، لهذا كله يعاملون كعبيد، ويحتاج بعضهم الى أدوية أو عمليات جراحية مستعجلة لكن من دون أمل.
مآسٍ عديدة داخل السجن لا يتسع مقال واحد لتعدادها، من حالات جرب الى حوادث وفاة قبل وصول الطبيب، أو التأخر بطلب سيارة اسعاف، الى أكل بالأيدي لعدم وجود أوانٍ كافية، الى تسجيل حالات اغتصاب وقتل وعراك.
الأب هادي العيا
الاب هادي العّيا مدير جمعية "عدل ورحمة" التي تُعنى بأوضاع السجناء اجتماعيا، انسانيا وثقافيا من دون اي تمييز عرقي او ديني، وذلك ضمن الشرائع اللبنانية، طالب - بالاضافة الى لائحة مطالب السجناء - بضرورة زيارة القضاء أماكن السجن في لبنان ومتابعة ملفات السجناء بشكل أسرع، لأن العديد منهم لا يعرف ما هي تهمته بالتحديد ولا متى تحدّد جلسته وما الى ذلك. كما ناشد المعنيين دراسة مشروع "يقضي بالنظر الى قضايا من أمضى نصف محكوميته في السجن لناحية احتساب الطاعة والسيرة والسلوك على المدة المتبقية من السجن مما يخفف في بعض المرّات مدة المحكومية المعتمدة اثني عشر شهراً الى أقل من تسعة أشهر فنكون قد دخلنا حينها في عملية تأهيل ملزمة".
واضاف:"المهم أن تنتقل مسؤولية السجن الى وزارة العدل تحت اشراف فريق متخصص في ادارة السجون لأن الموضوع ليس مادياً فقط كزيادة عدد المباني بل هو موضوع انساني واداري قبل كل شيء، وسبق لنا كجمعية أن خضنا تجربة في مبنى المدمنين على المخدرات حيث كسرنا الجدران ووسعنا المساحة ووضعنا أسرّة مريحة وخزانات وطاولات وبرادات مياه حتى أصبح أكثر سعة، كما وضعنا غسالات ونشافات صناعية لتسهيل الأعمال بمساعدة "أطباء العالم" ويجب أن يستكمل العمل في جميع المباني". ولفت العيا الى ضرورة "تسوية ملفات السجناء الأجانب الذين يشكلون 35 في المئة من النزلاء فتعالج مشكلة الاكتظاظ الذي يسبب أمراضاً في الكبد والرئتين والقلب خاصة في فصل الصيف الحار".
• • •
ترى ما الذي سيتغيّر بعد هذه الحادثة؟ وما الخطة الموضوعة لذلك؟ وهل ستتحوّل فترة ما بعد الوعود زحاما صحافيا طالبيا وسياحيا يكتفي بالتقاط الصور للذكرى؟ فتقتصر حتى احتفالات أسبوع السجين الآتية على الكلام الكثير، والحماسة الكثيرة، والنسيان المؤبد؟
اموال المؤتمرات والحوارات والاعلانات التي صُرفت على المناسبات السابقة كانت تكفي لسد بعض حاجات السجن كالادوية والبطانيات والصحون والزجاج. ام انها مناسبة نقيمها والسلام، ارضاء لضمائرنا ولتخطي خواء صحية في حياتنا العاطفية؟ وحتى التوّصل الى حلّ قريب "الساتر الله"!!!
تعليقات: