في غمرة الغيوم السود المدلهمّة، والمرارات العظمى، والبؤس اللبنانيّ العميم، واستجلابًا لضحكةٍ ساخرةٍ مُجلجِلة، أو لابتسامةٍ بخيلةٍ لم تعد تجد طريقها إلى وجهي، ولا وجوه الناس أمثالي، أهدى إليَّ صديقٌ عزيز فيديوًا يشيل الهمّ عن القلب، للفنّان الكبير الراحل المتعدّد الموهبة فيلمون وهبة، يؤدّي فيه أغنية “سنفرلو عَ السنفريان”، متراقصًا، ومحوطًا بضرّيبة الدربكّة، وبالجوقة المترنّحة طربًا وأنسًا.
“السنفريان”، لمَن لا يعلم، هي عبارة بالفرنسيّة ca ne fait rien، منقولة باللفظ نفسه إلى العربيّة، ومعناها “معليش”. بسيطة. طنِّشْ. إبلعْها. مرِّقْها. أو – بالعربي المشبرح – سدّ بوزك.
لن أستفيض في شرح كلمات هذه الأغنية الشعبيّة التي كتبها مارون نصر، ولحّنها فيلمون، وغنّاها، ولن أتوسّع في الإيماء إلى معانيها، ودلالاتها وإيحاءاتها، التي إنْ دلّت على شيءٍ محدّد، فهي تدلّ على القفشة ذات المغزى، وعلى الهزء الهستيريّ الجميل، وعلى السخرية المحبّبة، لكن التي تلدغ، وعلى الهجاء الذي يعقص، ويوجّع، كما تدلّ أيضًا على ما يتوارى خلف القفشة والهزء والسخرية والهجاء، من التنفيس والترويح عن النفس والتفنيص واللاجدوى والعبث والتسليم بالأمر الواقع، من جرّاء الأسى الشعبيّ المجروح غير القابل للاندمال.
بالطربوش، وبالشروال، وبالجزمة، جزمة الدبكة، أدّى فيلمون الأغنية. في الفيديو المشار إليه، الذي سُجِّل على الأرجح بعد صدور الأغنية على أسطوانة، وفيه يتحدث عن “عيدٍ” ما، وهو يريد أنْ يحتفل على طريقته بهذا العيد.
هل كان فيلمون يقصد – فقط – انتزاع البسمة “بقوّة” الموهبة، وذلك من أجل الإضحاك، والقهقهة، وإرسال القفشات، والتنكيت… فحسب؟
ربّما. يمكن. لكن، لا أعتقد. لأسبابٍ عدّة، في مقدّمها أنّ الأغنية، كلّ أغنية، كانت على الدوام حاملةً معانيَ ودلالاتٍ (وأهدافًا) شتّى. فكيف إذا أضيفت إليها، “رغبات” الكاتب (مارون نصر) والمؤدّي (فيلمون وهبة) في الغمز واللمز والتنكيت والسخرية والعقص؟! وكيف – أيضًا – إذا زاد فيلمون طين الهجاء بلّةً، فتلاعب مرّةَ (وأكثر من مرّة) بكلمة “سَنفِر”، مستبدلها بـ”فَنْتِر”، لاستدرار شلّالات الإضحاك والقهقهة والتهييج والسخرية.
“الفنترة”! وما أدراك أيها المستمع بـ”الفنترة”، وعلى ماذا “الفنترة”، وعلى مَن؟!
فليُسنفِر المستمع يومذاك، أي في العام 1972، مع فيلمون، و”ليُفنتِر” هذا المستمع يومذاك، واليوم – لِمَ لا – على كلّ مَن يستحقّ “الفنترة” في هذه الجمهوريّة غير السعيدة، وخصوصًا إذا كان هذا المستمع، المظلوم المعتّر المسكين الفقير التائه الشريد، “روحو براس مناخيرو”، وإذا كان “حليب النور طالع معو”، من جرّاء الوضع الزفت، والسلطة الزفت، والحكومة الزفت، والمستقبل الزفت.
هذا المستمع – الآن خصوصًا – لا بدّ من أنْ يعثر في وجدان هذه الأغنية الشعبيّة على ما يلبّي تعزيته الفقيرة، وحاجته إلى التنفيس عن أوجاعه ومكبوتاته، بصبّ غضبه وقرفه على السلطة وقباطنة سفينتها الغريقة، والتعبير عن احتقاره لها ولهم على السواء. لم أترك أحدًا من أصحابي إلّا أرسلتُ إليه الفيديو المذكور، “تعميمًا للفائدة”. وسأعاود الكرّة هذا اليوم، وكلّ يومٍ قريبٍ مقبل.
لكنْ مهلًا.
لا أعتقد أنّ المستمع الكريم إلى هذا الفيديو، ولا القارئ عمومًا، ولا المواطن اللبنانيّ مطلقًا، سيكتفي بهذه الأغنية للتعبير عن موقفه حيال ما يجري، ولـ”معاقبة” سلطته التي تمصّ دمه، وتجرد لحمه عن عظْمه، وتتركه جثّةً مرميّةً في الأزقّة، تعفّ عن لحسها كلابُ الدهر والزمان.
لا أعتقد أنّ المواطنين سيكتفون بمضمون هذه الأغنية الهازئ، الساخر، المعليشيّ. لا أعتقد أنّهم سيطنّشون.
المسألة – المأساة الوطنيّة أعمق من ذلك بكثير. وأكثر جذريّةً بكثير.
بكثير. وهي، أي هذه المسألة – المأساة، والحلول المرجوّة لها، لن تكون البتّة، لا على طريقة … المفتيّين والبطاركة والأساقفة والمشايخ ورجال الدين.
ولن تكون حلول هذه المسألة – المأساة، في أيّ حالٍ من الأحوال، على طريقة أيٍّ من أطراف هذه الطبقة السياسيّة – الطائفيّة – المذهبيّة – الميليشيويّة – الأمنية، الحاكمة تباعًا، وتواليًا و… راهنًا.
لن تمشي معنا “المعليشيّة” (السنفريان)، يا عزيزي فيلمون.
لأ. مش سنفريان. لأ. مش معليش. لأ. مش بسيطة. لأ. لن نُطنِّش. ولن نبلعها. ولن نُمرِّقها. ولن – بالعربي المشبرح – نسدّ بوزنا. ولن نُسَنفِر للعهد، ولا للحكومة، ولا لمجلس النوّاب، ولا لمعارضي هؤلاء من أهل الطبقة السياسيّة، ولا لكلّ من ينتمي إلى هذه السلطة – موالاةً ومعارضةً – في الوطن والمهجر.
أعتقد أنّ الأيّام هذه، المقبلة سريعًا، أعتقد – على ما يتناهى إليَّ من تردّدات الوجدان الشعبيّ الوطنيّ – أنّها ستحمل معها الخطوات والأساليب الملائمة التي ستضع حدًّا للسنفريان، وللمعليشيّة، وللسلطة المستغرقة في غيّها اللّامسبوق.
وهذا، سنفريان. بالإذن من خيّي فيلمون، وبرضاه!
الكاتب عقل العويط - النهار
تعليقات: