تتألف عملة الدولار الأميركي الورقية من حبر وورق، دون أية تغطية ذهبية، كما تتشوف بذلك أحيانا، بعض الدول الإفتراضية، للدلالة على "قوة" عملاتها الوطنية ، علما أن معظم ودائع الذهب لتلك "الأنظمة الورقية"، ومنها لبنان تحديدا، موجودة في الخزانة الأميركية.
للأسف، أنه لا تتضمن مناهج التدريس اللبنانية هذه المعلومة، حتى تكون الأجيال على بينة واضحة من أهمية هذا الموضوع على مستقبلهم المعيشي، في وطن يدعي "الاستقلالية، والسيادة، والحرية"، له علم، ونشيد وطني، وعملة وطنية، ويترنح مصيره النقدي كلما شح مخزون الدولار الاميركي في المصرف المركزي.
العجب أيضا، أنه مضت عقود على معالجة العملة الوطنية اللبنانية في غرفة عناية الدولرة الفائقة، حتى استنزف ذلك كل احتياطات العملة الاميركية، وسقطت الليرة في كوما نقدية، ميؤوس من إستعادة صحوتها، واسترجاع قوتها الشرائية.
أشرف على هذه العناية الفائقة المستدامة والهدامة، حاكم مصرف لبنان، رياض سلامه، من اجل الحفاظ على معدل سعر صرف الليرة مقابل الدولار، طوال عقود، توالت فيها على قيادة دفة الدولة نحو المجهول، طغمات سلطوية متسلطة وفاسدة، قامت بتبذير، ونهب، كامل إحتياط الخزينة العامة.
اشتدت حالات الفساد والإفساد مع تكاثر أعداد المصارف المحلية، التي عملت على استقطاب أموال المودعين من خلال تقديم فوائد عالية وخيالية على ودائعهم، التي استثمرتها في سندات الخزينة، الصادرة عن المصرف المركزي، في حين كان يقدم حاكم المصرف المركزي تلك المبالغ الضخمة أضاح، وقرابين في هياكل فساد القطاع العام، التي يشرف عليها، ولا يزالون، مجموعات من "علي بابا"، ولصوصهم الكثر!
تبخرت أموال المودعين في طبخات رديئة ومشبوهة، شارك فيها أصحاب المصارف الذين حولوا أرباحهم خلسة إلى الخارج، وتركوا أموال المودعين تحت رحمة حاكم مصرف لبنان، التي قدمها عطاءات مجانية إلى زمر السلطات الثلاث، التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، بعيدا عن اي رقابة أو محاسبة، سابقة أو لاحقة.
ضاعت أموال المودعين، وتاه أصحابها، ولا يزالون، في دهاليز تصريحات ووعود رسمية كاذبة، غير واقعية.
شح رصيد الدولار في محفظة المصرف المركزي، الذي يعمد مؤخرا إلى اختلاس أموال التحويلات الخاصة بالعملة الأجنبية، ويصرفها للمستفيدين بالعملة الوطنية، التي تتدهور قيمتها الشرائية، يوما بعد يوم، وبصورة مرعبة ومريبة.
يرتفع سعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية بصورة عشوائية، مما يؤدي إلى تهميش وتآكل مداخيل الناس، ومدخراتهم، وبالتالي إلى انخفاض قيمتها الشرائية، فيستشري الجوع، والتجويع، والإستغلال، لدى الغالبية العظمى من الشعب.
لا تلوح بوادر انفراج نقدي مالي في الافق القريب، طالما أن زمر السلطة الفاسدة هم من ينادون بمكافحة الفساد، وهم ليسوا سوى عصارة الفساد والإفساد.
لا بد من التسليم أن عظمة أميركا العسكرية والنقدية تتفوق على كل دول العالم وأنظمتها، لكنها تضعف أمام إرادة الشعوب التي تهدد عروش طغاتها، وأكبر دليل معاصر على ذلك، هو انهيار الإتحاد السوفياتي، واستعادة الشعب الروسي قدرته وقوته الاقتصادية والعسكرية لاحقا.
لقد برهن فقدان الدولار من الأسواق اللبنانية، أننا لا نعيش في بلد سيد، وحر، ومستقل، بل نحيا في كيان إفتراضي إستهلاكي، يعتمد سكانه، يوميا، على نسبة كبيرة من السلع المستوردة لديمومتهم، مع العلم أنه طال الإرتفاع الحاد للأسعار ايضا، جميع انواع السلع الغذائية الضرورية المنتجة محليا، حتى الزراعية والحيوانية منها، بداعي الجشع والطمع.
أختصر الكلام بدعوة السلطة الفاسدة إلى إعادة ما نهبوه من الخزينة العامة، أو أنهم سوف يشهدون ثورة شعبية، تعتمد على أبسط مستلزمات العيش الأساسية الضرورية، حتى تتخطى على عوائق ندرة الدولار وأثارها السلبية على قدرة الإستيراد، وتشكيل جبهة وطنية خارج القيود الطائفية والمذهبية والمناطقية، تقوم على العدل، والمساواة بين المواطنين، بعيدا عن أوبئة المنافع الخاصة الضيقة، حتى تتحقق عملية توطيد أسس الدولة ونظامها.
لا يمكن أن يقوم لبنان، كما عهدناه منذ الإستقلال، على سياسة القوة الشرائية للمخزون النقدي بالعملة الأجنبية، وخاصة الدولار، لضمان استقراره المالي والإقتصادي، أي على السيولة النقدية المودعة في الخزينة العامة، لأن الورق النقدي غير صالح للهضم الأمعائي، بل يجب أن يعتمد على الحقول الإنتاجية المتجددة، التي تدعمها قدرات وخبرات الشباب اللبناني المثقف، المتوفرة، لتحقيق الثبات الإقتصادي المتين.
لقد غرق اللبنانيون في متاهات إستهلاكية للسلع الكمالية في حياتهم اليومية، وعليهم أن يسقطوها عن كاهل متطلباتهم المالية المرهقة، حتى ينطلقون من جديد نحو العمل المنتج للمواد الأساسية، الضامنة لبقائهم، وديمومة مستقبل عائلاتهم.
إن أبواب الهجرة إلى دول الخليج والمهجر قد اقفلت مؤخرا بصورة مطلقة، بعد الركود الإقتصادي الذي أصابها جراء صراعاتها مع بعض البعض، واستنزاف احتياطاتها المالية السيادية، مضاف إليها الآثار السلبية لتداعيات إنتشار وباء الكورونا الخبيث.
لا خيار أمام جيل الشباب غير بث العزيمة والإرادة في النفوس، والوقوف صفا واحدا في مواجهة دهاء الفاسدين والمفسدين، الذين اوصلوا البلد إلى هذا الدرك المعيشي المأساوي والظالم.
* سعد نسيب عطاالله
تعليقات: