تخيل أنك تعيش في بلد، 60 في المئة من عائلاته تنتمي إلى الطبقة الوسطى بتدرجاتها، من الأدنى إلى الأعلى. تخيل أنه لبنان. لبنانك الرابخ الآن، كدجاجة معتلّة، على أزمة طالت حضانتها، والخوف دافئ. لكن لمَ إعمال الخيال والأمس ما زال قريباً؟
في العام ,1974 عشية اندلاع حرب «القضايا الكبرى» في لبنان الصغير، كان أكثر من نصف اللبنانيين يشكلون الطبقة الوسطى المحلية ويستطيعون ـ ولو بقليل من الاستدانة، وتنظيم الأولويات، وشقلبة المداخيل والنفقات ـ تأمين ضرورات الحياة من تعليم وغذاء وكساء ومسكن، مع إضافات تربو على حدود الثقافة والترفيه والعيش المستقر الذي لا تُرى في أفقه سدود أمام الأحلام وخطط المستقبل المرئي. ليست النوستالجيا، وأهلنا لم يتغنّوا بـ«هيديك الأيام» جزافاً. كانت الدجاجة تبيض ذهباً.
لا تتخيل. فقـط أنظر حولك، تأمل انكماش هذه الطبقة اليوم إلى نصفها، ربما أقل. الطبقة الوسطى، رافعة الديموقراطية في الأعــراف كافــة. الأكف التي حملت «البروفيل» اللبناني ـ حتى صار «كليشيه» ـ إلى مصاف النموذج: المجتمــع اللبــناني، منتـج المتعلّمين ومضيف طالبيه العرب، مكتسب المهارات واللغات، المنفتـح المتعــدد المتسامــح، مع حضور يومي «عادي» للأديان ولو بقي المضمــر مضمــراً. القــِدر الذي تمتزج فيه كتب وفنون وأفكار، ويُطبخ فيه مثقفون، وتطفو على وجهه نخبة كأن ما يغلي حليب بخيره. ما زلنا نعيش على رائحة الماضي تلك، في مهرجانات مسارح «المدينة» و«مونو» و«دوار الشمس»، وفي الغاليريهات وصالات السينما والمقاهي والحانات.
في المقابل، لم يخف على أحد أنه، مع أكف الطبقة الوسطى تهدهد «الوصفة اللبنانية»، كانت هناك أذرع داخلية وخارجية، وكان هناك هوى إقليمي ومحلي مؤات. فُتح المجال رحباً ـ في ما بعد ـ لنقد تيمة العيش تلك. كانت «أسطورة»، تُرى اليوم تأسيسية، وإن تبدّت لنا أخطاؤها إثر تجارب حارقة وتفكير بارد. انقشع بعض الوهم الذي أحالها غير مستدامة. لكن هناك زاوية أخرى. من ثقب في جدار الجمود الحاضر، تُرى الأيدي وقد باتت متعبة، زاد حملها فارتخت، تقطّع بعض أوتارها.. والبلد ينظر تحته ويخشى السقوط أكثر.
ما هي الطبقة الوسطى اللبنانية؟ أين كانت؟ لماذا كانت؟ كيف تحضن نفسها اليوم وتصمد؟ وهل تجد لها، بين آلهة أرضنا هذه، رباً يحميها؟...
قبل حوالي عشر سنوات، كان يوم الخميس عند ندى بلا مخططات. الأصح أنه كان مساءً محجوزاً لمشروع ثابت. «نادي السينما»، الذي درجت على لمّ شمله مجموعة شباب، لندى بينهم أصدقاء، في «زيكو هاوس» بمنطقة سبيرز. مجرد غرفة في منزل قديم معتنى به، يؤجرها صاحب البيت لنشاطات ثقافية متنوعة، وبعد ظهر الخميس لعرض أفلام «بديلة»، من أميركا اللاتينية أو إيران أو أوروبا أو المغرب العربي، على شاشة من قماش. تذكر أنها خرجت مرة، بعد مشاهدة الفيلم الكوبي «فراولة وشوكولاتة»، وهي تفكر: «غواية الجسد والعقل». كانت ندى تواظب أيضاً على النادي الرياضي، وعلى حفلات الموسيقى الكلاسيكية في الجامعة الأميركية.
في خلال العقد الماضي، تزوجت ندى، وصار لها ولدان. لعلها ترتاد صالات السينما، التجارية العادية، مرة كل أسبوعين أو ثلاثة. نُظّمت مؤخراً حفلة لعازف البيانو، وليد حوراني. لمحت ندى الملصق الإعلاني في الشارع، وكفى. فلا بطاقات متوفرة بأقل من 60 ألف ليرة. هي تعمل قبل الظهر معلّمة في مدرسة خاصة، حيث تحسم أقساط ولديها من راتبها. وبعد الظهر تنشغل بإعطاء الدروس الخصوصية التي تسند مصاريف العائلة الصغيرة. حتى يومي السبت والأحد، الآن محجوزان للأعمال المنزلية المتراكمة فوق كتفيها على مدى الأسبوع، فيما يتولى زوجها إيصال الطفلين إلى صف تعليم البيانو ثم درس السباحة. النشاطان اللذان يصر عليهما الوالدان، ولو عصرا نفقاتهما الشخصية كرجل وامرأة على أبواب سن الأربعين وعزّه. من حق الطفلين تحصيلٌ يغنيهما، روحاً وذهناً، خارج المدرسة واللعب في غرفتهما. على هذا الأساس، تحسب ندى وتشطب كل شهر، و«تطنّش» ملاحظات والدتها حول إهمال الابنة لنفسها، ولـ«لفتات» قد تعزز علاقتها برجل ارتبطت به بعد حب كبير صار اليوم محفوفاً بالقلق اليومي...
ثمة خلل كبير في توزيع الدخل في لبنان. هذه حقيقة واضحة بالنسبة إلى أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، د. جاد شعبان. يشرح بالأرقام: 80 في المئة من العائلات اللبنانية تتمكّن من نصف المداخيل اللبنانية فقط. فيما يذهب النصف الآخر إلى 20 في المئة محظوظة من العائلات. والمفارقة أن 10 في المئة من هذه الفئة الأخيرة تتمتع وحدها بنسبة 35 في المئة من إجمالي المداخيل. وفي تقدير شعبان أن الحال ساءت كثيراً «مع الانكماش المؤكد للطبقة الوسطى اللبنانية. فقد تقلصت نسبة العائلات التي تمتعت بدخل متوسط، في العام 1974 من حوالى 60 في المئة إلى حوالى 40 في المئة عام ,1992 ثم إلى نحو 30 في المئة عام .1999 وتراجعت القدرة الشرائية لمتوسط مداخيل الطبقة الوسطى اللبنانية بنسبة 8.4 في المئة في التسعينيات، لتصل إلى معدل 21 في المئة مما كانت عليه عشية الحرب في لبنان».
نفتقر إلى دراسات دقيقة تغطي السنوات القليلة الماضية، لكن خبراء يذهبون إلى تخمين تمدد هامش الفقر، وطبعاً ظلّه الذي يقضم جزءاً من الطبقى الوسطى، بنسبة خمسة في المئة (أنظر كادر «ثلث الشعب اللبناني فقير»). أما شعبان فيذكّر بالرابط «البديهي» بين تردي الوضع السياسي ـ الاقتصادي وبين تفاقم الهجرة، لا سيما في أوساط متوسطي الدخل. إذ فقد البلد، بحسب الدراسات المتوافرة لديه، 40 في المئة من هذه القوة بين عامي 2000ـ,2003 وهي النسبة الأعلى بين دول المنطقة ومنها الأردن ومصر وسوريا. وفي العام الحالي، تظهّر سجلات المخاتير والأمن العام إقبال اللبنانيين المدهش على استصدار جوزات السفر المتعددة الاحتمالات. يؤيد شعبان بقوة مطلب رفع الأجور «لكن مهما كانت الزيادة، فهي ليست الحل السحري. فمن ينتم إلى الطبقة الوسطى، ويُصب أحد أفراد عائلته مثلاً بمرض خطير أو مزمن ومكلف، فسيتدهور بسرعة إلى الفقر». الحل، من وجهة نظر شعبان، يتمثل «في شبكة أمان مختلفة، في تجديد العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن. وذلك من خلال الإصلاحات الضريبية والخدماتية التي ترفع مستوى المعيشة (مثل الكهرباء والخلوي والعلاقات التجارية مع البلدان التي لا تكبدنا تكاليف كبيرة).. سياسة مالية تسيطر على التضخم بدل أن تكون في خدمة الدين العام». وتبقى الحقيقة الأهم: «لا مجتمع ديموقراطياً إلا ويحيا على توسع الطبقة الوسطى فيه: فرنسا، النروج، فنلندا.. هذه بلدان تتقاضى ضريبة مباشرة مرتفعة، وتتأكد فيها بالتالي إمكانية المحاسبة، طبعاً مع حد أدنى من استشراء الفساد»!.
توصية منطقية بالطبع. أما سيرتنا الضريبية، ومعها آفاق المحاسبة وغلو منسوب الفساد، فـ«تاريخ» يخضع إلى منطق آخر، مريض بالسياسة على الطريقة اللبنانية.
«سويسرا الشرق»
في كتابه ـ المرجع «اقتصاد لبنان السياسي 1948ـ2002: في حدود الليبرالية الاقتصادية» يتناول الخبير توفيق كسبار فكرة محورية: «حتى اندلاع الحرب عام ,1975 كان العديد من الناس يطلقون على لبنان لقب سويسرا الشرق الأوسط ويلفتون النظر تكراراً إلى أدائه الاقتصادي المميز. وكانت نسبة المتعلمين فيه من الأعلى في العالم العربي وفي الدول النامية. وفي سياق دراسة عن الإنماء في العالم قامت بها الأمم المتحدة عام ,1970 كان مؤشر الإنماء الاجتماعي الاقتصادي للبنان يزيد عن ,70 بينما كان المؤشر ذاته لمصر وتركيا يبلغ 36 و37 على التوالي، ولتشيلي 65 وللنمسا .90
وجاء في تقرير للبنك الدولي، نشر في أيار ,1975 أن «لبنان يهدف إلى تحقيق مستوى معيشي أوروبي ويجب مقارنته ببلد أوروبي ذي دخل منخفض»... إلا أننا ندعي أن جلّ النمو والإنماء اللذين تحققا في لبنان كانا نتيجة ظروف مؤقتة وخارجية مؤاتية أكثر مما كانا نتيجة عملية إنتاجية مستمرة للمهارات فيها دور متعاظم وفاعل. ويبين هذا الكتاب (لكسبار نفسه) أنه كان للقوى من خارج نظام السوق دور رئيسي في عملية النمو وأكبر من دور الليبرالية الاقتصادية التي كانت مساهمتها ضئيلة».
ويلفت مقال مشترك للمتخصصين جاد شعبان وخليل جبارة (في دورية «أبعاد» للدراسات اللبنانية والعربية ـ عدد آذار 2007)، إلى أن ما يحتاجه لبنان أكثر من أي يوم مضى، هو عقد اجتماعي جديد يحل مكان اتفاقية المقايضة غير المكتوبة بين النخبة السياسية والعامة. وبما أن هذا الخيار يبدو خيالياً نظراً إلى حصانة النخبة السياسية وقوة شبــكات الرعاية غير الرسمية، تمسي أي محاولة إصلاحية سلمية للنظام مستحيلة ومحفوفة بالمخاطر».
وهكذا، يمسي الحل في رأيهما مركّزاً في وضع قانون انتخابي إصلاحي ومعاصر. وإذا كان هذا هو بالضبط لب التناحر السياسي اليوم، ومن خلفه التوتر الشعبي، فلعله، عملياً، كلمة الحق التي يراد بها عقدة أكثر تشبيكاً بالأسباب الطائفية ذاتها، بدل أن تكون معبراً إلى اللاطائفية المشتهاة... هل هي فعلاً مشتهاة؟
في العالم.. دوننا
يمشي لبنان، بطبقته الوسطى، بعكس سير العالم، و«أخواته» من فقيرات الدول. ففي عدد آذار ـ نيسان 2008 من مجلة «فورين بوليسي» الأميركية مقال يفيد بأن «الطبقات الوسطى في البلدان الفقيرة هي الفئات الأسرع نمواً بين سكان العالم. ففي حين يُتوقع أن يزداد عدد سكان الكوكب بمقدار مليار نسمة خلال السنوات الاثنتي عشرة المقبلة، فإن الطبقة الوسطى ستتمدد بمقدار 1.8 مليار نسمة، ثلثها (600 مليون) ستكون في الصين... (وبقول آخر) يتوقع أن ترتفع نسبة الطبقة الوسطى من سكان العالم من 30 إلى 52 في المئة، مع وصولها إلى الضعف في البلدان الفقيرة حيث تساهم التنمية المستدامة في رفع الناس بسرعة فوق خط الفقر». لكن كاتب المقال، إذ يعتبر أن هذه «أخبار جيدة»، فهو يحذر من انعكاساتها لجهة رفع أسعارالمواد الغذائية بسبب زيادة عدد الأشخاص القادرين على شراء هذه المواد وغيرها، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة الموارد الطبيعية والاستهلاكية. ويستدل بذلك أيضاً ليضيء على ارتفاع حدة المطالبة، حول العالم، بشروط أفضل للسكن والطبابة والتعليم والمشاركة السياسية.
سبب استقرار المجتمعات
تستند مديرة معهد العلوم السياسية في الجامعة اليسوعية، د. فاديا كيوان، إلى المعيارين النظريين الأكثر شيوعاً في تعريف مفهوم الطبقة الوسطى: الماركسي والأنغلوساكسوني. فبحسب التعريف الماركسي، هي الطبقة المؤلفة من ذوي الدخل المحدود: موظفون مقابل أجر محدد، وهم على قدر من الكفاءة والتعليم، من القاضي وموظف الدولة إلى التكنوقراط ذوي المهارة العالية، وبينهم أصحاب المهن الحرة الذين يعملون ضمن مؤسسات مقابل راتب معروف. وهناك، بموازاة هؤلاء، البرجوازية الصغيرة، مثل أصحاب المحال التجارية والمؤسسات الصغيرة التي تؤمن دخلاً محدوداً، لكن بلا تراكم (كوكالات السفر والنقل الخ)، وأصحاب المهن الحرة (أطباء، مهندسون، الخ..) الذين يعملون لحسابهم الخاص، بالإضافة إلى الحرفيين... وبحسب كيوان فإن «هاتين الفئتين قريبتان من بعضهما البعض من حيث الترقي الاجتماعي، لا سيما في الحالات العادية، لأنهما تؤديان دور الوسيط بين الطبقتين الغنية والفقيرة. لكن في الأزمات الاقتصادية يظهر الفرق. فالطبقة الوسطى تتآكل قدرتها الشرائية، وبذلك تتماهى مع العمال أو البروليتاريا، وقد تجلى ذلك مثلاً في مرحلة انهيار سعر صرف الليرة في الثمانينيات. أما البرجوازية الصغيرة، فبوسعها إحداث تراكم رأسمالي، فالدكانجي يمكنه أن يخزن البضائع ويبيعها بسعر أعلى، والطبيب يرفع تسعيرته في عيادته الخاصة وربما يتقاضاها بالدولار».
أما في التعريف الأنغلوساكسوني، فالأمر أبسط: الطبقة الوسطى هي ذات الدخل المتوسط الحجم، والتي تؤدي دور الوسيط بين الكادحين والميسورين، بصرف النظر عن عنصري محدودية الدخل والتراكم.
في الغرب، تقول كيوان، «ارتبط الفكر الديموقراطي بتوسع الطبقة الوسطى بمعناها الأنغلوساكسوني، لأن هذه الطبقة تخفف من حدة التناقض بين الطبقتين الفقيرة والغنية، ولطالما اعتبرت أنها رافعة الديمواقراطية». كيف؟ «للبرجوازية الكبيرة مصلحة في السياسات الليبرالية، وفي الاهتمام بالعناوين العريضة كمبدأ المحاسبة ومكافحة الفساد واستقرار التشريع، لأنه يجب أن تكون هناك إمكانية التوقّع في ما يتعلق بالاستثمارات، وهذا عامل مهم لتوظيف رؤوس الأموال المتسمة عادة بالعقلانية، في حين أن الفساد مكلف. هذا طبعاً لا ينطبق علينا لأن الطبقة الحاكمة عندنا، ومعها الطبقة الاقتصادية العليا، تعمل بطريقة المافيات. المهم.. من جهة الكادحين، تكون الأولوية للتقديمات الاجتماعية، لا المشاركة في السلطة، وإذا حدث ذلك لرجّحت إفراز الأوليغارشية (حكم النخبة والأقلية العسكرية أو الاقتصادية أو العائلية) كما رأينا في أمثلة تاريخية عدة.
إذاً، من الممكن أن تهتم طبقة الكادحين بالتنظيمات الجماهيرية والنقابية، أي بالمشاركة الصورية في السلطة، تضيف كيوان، «لكن مطالبها تبقى حياتية ويومية، أكثر منها ارتباطاً بالحريات العامة والديموقراطية. أما الطبقة الوسطى، فيفترض أن حاجاتها الأساسية مؤمنة. وفي ظروف استقرار مادي وغياب الأزمات، ينصب اهتمامها على تعزيز اعتبارها الاجتماعي. لهذا كانت دائماً هي رافعة الديموقراطية في الغرب وسبب استقرار المجتمعات».
البروليتاريا الجديدة؟
.. والآن، وقت مستقطع لتوسيع النظرة مرة أخرى صوب العالم. ففي عددها الصادر بتاريخ 9 نيسان 2007 (بالإذن من ميشال حايك الذي يترقبه لبنانيون انعدمت وسائلهم لاستشراف مصير مهدد وغامض)، نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية «تنبؤات» جديرة بالتأمل، هكذا:
«رقاقات معلومات تزرع في الدماغ. أسلحة كهرومغناطيسية تعمل على النبض. الطبقات الوسطى تصبح ثورية وتأخذ دور بروليتاريا ماركس... هذا هو العالم خلال السنوات الثلاثين المقبلة، كما يتصوره فريق من وزارة الدفاع البريطانية، وهو المسؤول عن رسم صورة «السياق الاستراتيجي المستقبلي» الذي يتوقع أن تواجهه القوات المسلحة البريطانية... وهو تقرير يرتكز على «أرجحيات» اقتصادية وسياسية وتكنولوجية عامة تنتظر العالم ككل، فقد خصّ الطبقات الوسطى بأنها «من الممكن أن تتخذ لنفسها الدور الذي أناطه ماركس بالبروليتاريا. وتستند هذه الأطروحة على الفجوة المتزايدة بين الطبقات الوسطى وتلك الفائقة الثراء من جهة، وبين الفئات المدينية المهمشة من جهة أخرى، بما يهدد الانتظام الاجتماعي... ولعل الطبقات الوسطى تتحد، باستخدام قدرتها على الوصول إلى المعرفة والموارد والتقنيات، لتوليف عمليات عابرة للأوطان، تصب في مصالحها..».
هكذا، وفي نظر عالم يركض فيتجاوزنا، يتطور معنى وجود الطبقة الوسطى، لتصبح هي المعنية الأولى بالتغيير السياسي والاقتصادي. وثمة من يرجح أنها ستتخطى دورها كجسر أو درع واق بين حدّي الصراع الطبقي (بحسب التصور الماركسي الكلاسيكي). بل أصبحت، بسبب الهوة التي تزداد عمقاً بعدما كاد أن يضمحل دور الطبقة العاملة، واحدة من طرفي التناقض، ومؤهلة لتقود التحالف الطبقي الجديد ضد البرجوازية الفائقة.
«النص اللبناني» والإشكالية الطبقية
من المعروف أن الجدل قديم، نسبياً، حول «ثقافة» أو «سوسيولوجيا الطبقات»، بمعنى فهم الفئات المختلفة في المجتمع، حصراً، من منظور موقعها على السلّم الاجتماعي. فقد برزت أدبيات نقدية كثيرة للمفهوم الماركسي في هذا المجال. إذ اعتبر البعض أنه غير كاف، ومتجاهل للخصوصيات الإتنية والجندرية والدينية وحتى الفردية. أما الإشكالية الطبقية في «النص اللبناني» فعتيقة، وجليّة، ومحسومة منذ زمن.. واليوم أكثر من أي وقت مضى..
«إن علاقة الطبقة الوسطى في لبنان بالأزمة الراهنة ضعيفة، خصوصاً أن المشكلة لطالما كانت ذات طابع سياسي مرتبط دائماً بالطائفية»، كما تقول كيوان. وتعلّق نهوض الفئات المتوسطة (أي الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة)، من حول مشروع سياسي، على شرطين. شرطان منطقيان ومحقان بالمطلق. غير أنهما يبدوان، للأذنين اللبنانيتين، كحلم إبليس بدخول جنّة الرب: أولاً، المساواة في المشاركة، أي إلغاء الطائفية السياسية. وثانياً، قانون مدني للأحوال الشخصية. فالأول يجب أن يكون ضامناً لحريات تعطي طالبي نمط العيش الليبرالي الغربي مطلبهم من دون إلغاء سائر الأنماط، أو تسييد نمط على آخر. والثاني يضمن، بعد الأول، ألا يعاد تشكيل الصيغ الطائفية في إطار العائلة وهي نواة المجتمع: «في مطلع السبعينيات كان هناك تصاعد لفكر مدني علماني، وكان بحث عن قواعد بديلة للعمل السياسي، من خلال الجمعيات والنقابات. لكن ظروف الحرب أعادت (تأكيد) فرز المجتمع طائفياً. ثم جاء اتفاق الطائف الذي أعاد إنتاج الهواجس من خلال ممارسة سياسية إقصائية لكل من لم يكونوا موافقين على الهيمنة السورية على لبنان».
ترصد كيوان ضرر الشرذمة الحالية على الجميع، «لكن سمة صمام الأمان للطبقة الوسطى تجعل تأثرها أكثر خطورة منه على غيرها. ولد هذا الخطر في الحرب الأهلية، وهو الآن ليس أقل حضوراً: أولاً الطبقة الوسطى تفقر، تتدنى قدرتها الشرائية، أو تخرج من عملها. حتى المهن الحرة اهتزت في موقعها الاجتماعي، وهكذا نرى حركة هجرة كبيرة، تذكر بمثيلتها في الحرب. ثم رزحت الطبقة الوسطى، خلال الحرب، تحت القسمة الطائفية، واليوم تحت نير الخطاب السياسي والرغبة في الوصول إلى السلطة... علماً أن الجميع الآن أقلية، ولا أحد تمكن من الإمساك بالسلطة وحده. وأخيراً، لم يساهم الأداء السياسي بعد الحرب، وحتى الآن، في تخفيف الهواجس الطائفية، في ظل الخشية من الإلغاء والتهميش والإقصاء».
إشارة أخيرة: تخشى ندى أن يكبر ولداها فلا يعرفان آخر ما لحقته ـ كشابة ـ من إمكانيات العيش المدوّر في هذا البلد. وتفزع أكثر أن تجد نفسها جدّة طاعنة في السن، وهما بعيدان عنها، على أرض أخرى يجدون فيها ما يستحق العيش.
ثلث الشعب اللبناني فقير!
يحيل الملخص التنفيذي لتقرير «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، تحت عنوان «الفقر، النمو، واللامساواة في لبنان» (صدر في تشرين الأول 2007)، القارئ إلى دراسات العام .2005 ويشير إلى أن حوالى 8 في المئة من اللبنانيين يعيشون في ظروف فقر مدقع، أي تحت الحد الأدنى لخط الفقر. مما يعني أن حوالى 300 ألف فرد في لبنان لا يتمكنون من تأمين الحاجات الأساسية الغذائية وغير الغذائية. ويحدد التقرير الحد الأدنى لخط الفقر في 2.4 دولار أميركي للفرد في اليوم.
أما في ما يتعلق بتوصيف أقل دراماتيكية لخط الفقر، وتحديداً ما يعرّف عنه البنك الدولي بالحد الأعلى لخط الفقر، فإن إجمالي نسبة اللبنانيين الفقراء تصل إلى 28.5 في المئة (أي مليون لبناني تقريباً). ويترجم الحد الأعلى لخط الفقر في 4 دولارات للفرد في اليوم.
تعليقات: