كان سعد الحريري يتلقّى تقارير مطمئنة ممّن حوله، ويعكسها إلى المسؤولين في السعودية. كل شيء على خير ما يرام، ومطعم سقراط يؤمّن لتيار المستقبل ثلاثة آلاف وجبة يومية، مما يطمئن مسؤولي المستقبل: «3 آلاف مقاتل جاهزون في بيروت». إلا أنه في السابع من أيار كانت باصات تمر على القرى السنيّة القليلة في البترون وعكار، حيث لم يلتحق بالباصات أكثر من 80 مقاتلاً
يوم الثلاثاء استيقظ اللبنانيون على قرارات الحكومة. كانت قوى المعارضة في حالة مفاجأة. رأس الهرم في حزب الله وحركة أمل يعلم أن الاتجاه نحو التصعيد، وأن السعودية تنحو لكسر المعارضة، ولذلك لم تحدد موعداً لرئيس مجلس النواب نبيه بري، وأن الأميركيين من خلفها يحاولون تجييش موجة من التصعيد المحدود في المنطقة، من العراق إلى لبنان وفلسطين، يلاقيها ضغط على سوريا وإيران. إلا أن قرارات الحكومة مع ذلك باغتت قيادة المعارضة، وكانت الخيارات صعبة.
قبل أيام كانت قيادة حزب الله قد ناقشت معلومات متعلّقة بحرب تموز، وبمن تورط في دماء اللبنانيين في تلك الحرب، ويوم الأربعاء عقدت اجتماعات سرية ومعلنة لكل واحدة من قيادات المعارضة. حزب الله عقد اجتماعاته المغلقة والسرية، وحركة أمل كذلك، كما جرى التواصل للتنسيق بين زعماء المعارضة حول خطورة إجراءات الحكومة.
لأشهر خلت كانت المعارضة تملك عدداً من الخطط الأمنية لإسقاط العاصمة وسحبها من يد الأكثرية، وكانت إحدى هذه الخطط هي تلك التي صادق عليها عماد مغنية قبل مقتله في سوريا، والتي تلحظ احتمال سقوط العاصمة خلال دقائق، وخطط أخرى أقل سرعة وأطول أجلاً.
صباح الثلاثاء كان في خلفية المعارضة ما جرى مع بري، الذي سبق أن اتصل برئيس الحكومة والنائب سعد الحريري يوم الاثنين واتفق معهما على عدم فتح موضوع المطار في الجلسة، أو ملف الشبكة السلكية، ووُعد خيراً، وتبين للمعارضة أن الإصرار على بت موضوع المطار والشبكة السلكية جاء نتيجة الاتصالات العربية مع الحكومة خلال الجلسة الليلية الطويلة، وخاصة من مسؤولين في العربية السعودية.
كان ليوم السابع من أيار أن يمر كأي يوم عادي، لولا عدد من القنابل اليدوية التي أُلقيت هنا وهناك على مناطق للمعارضة وعلى مخيمها في الوسط التجاري، إضافة إلى التهديدات بإطلاق النار على المتظاهرين إن هم مروا عبر كورنيش المزرعة. وكانت قيادة المعارضة قد قررت قطع الطرق في البلاد، وخاصة أمام مطار بيروت الدولي والمرفأ، والخطوط الرئيسية المؤدية من العاصمة وإليها، ومواصلة التحرك بضعة أيام، ولا سيّما أن التظاهر والاعتصام ليوم واحد لم يحرّكا الحكومة الحالية ولا مرة في الماضي، ولا بد لإسماع صوت المعارضة من تحرك ضخم وطويل المدى.
إلا أن إقدام الموالاة على استخدام السلاح نبّه المعارضة إلى أنها أمام «فرصة ذهبية»، ظهر الأربعاء بدأت التحركات تأخذ شكلاً أكثر نظامية، وتحوّلت قوى المعارضة إلى قوى مسلّحة، وبدأت باحتلال المناطق التي تسكنها أغلبية شيعية: بربور، رأس النبع وشارع عمر بن الخطاب، والمناطق الممتدة من برج أبي حيد وغيرها.
كان الاختبار الأول هو إسقاط بعض مواقع «المستقبل» في بربور ورأس النبع، واستخدام نيران محدودة.
ويتحدث من قاد تلك المعارك عن تخطيط لعمليات جراحية لا تؤدي إلى نزف بشري وخسائر كبيرة، وفي الوقت نفسه تنهي وجود تيار المستقبل، إضافةً إلى اختبار موقف الجيش. واكتشفت المعارضة مع الساعات الأولى للاشتباكات أن لسان حال الجيش كأنه يقول: «لقد منعتكم من ضرب بعضكم بعضاً لمدة ثلاثة أعوام، وقوى الجيش منهكة وأنتم لا ترتدعون، فلنرَ ماذا سيكون من أمركم». ولم تكن المعارضة بحاجة إلى أكثر من ذلك، فانطلقت مجموعاتها لمحاصرة مراكز المستقبل، وبدأ الاختبار. أسقط المركز الأول، وسُلّم الأسرى للجيش، ومع موافقة استخبارات الجيش على سحب الأسرى من تيار المستقبل ونجاح القيادة الميدانية للمعارضة في السيطرة على المقاتلين، انفتح الباب لإسقاط المزيد من المراكز، وتكرر سيناريو إسقاط المراكز وتسليم الأسرى إلى استخبارات الجيش لسحبهم من المراكز.
القيادة الميدانية لقوات المعارضة قدّرت قبل بدء المعارك أن هناك خمسين نقطة اشتباك رئيسية للأكثرية ما بين تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية التي لم تتدخل إلا بشكل محدود في السوديكو حيث رُدعت، وفي عين الرمانة حيث تصدى لها الجيش، وعلى الخط الساحلي بعد رفض المقاتلين الاشتراكيين قطع الطرق هناك. وكان بحسب تقديرات المعارضة فإن خمسين نقطة ستقاوم في بيروت ويكون فيها ما يقارب ثلاثة آلاف عنصر، إضافةً إلى 900 من قوى الأمن الداخلي كان عدد من قادة المستقبل قد توعّد المعارضة بأنهم سيتصدون لهم إذا سوّلت المعارضة لنفسها القيام بأي تحرك أمني، وفي الحسابات العسكرية التي أُجريت فإن كل نقطة ستسقط 10 إصابات في الأرواح بين الطرفين، وخاصة مع عدم وجود ما يمكن أن يحمي المقاتلين من دشم وتجهيزات أخرى، ولقلة خبرة المقاتلين من الطرفين بعد طول انكفاء عن العمل العسكري ما عدا مقاتلي حزب الله، مما يعني عملياً أن 500 إصابة ستسقط في أقل تقدير.
الأربعاء في السابع من أيار اكتشفت قيادة المعارضة سهولة الأمور، وكانت تنتظر تراجعاً فعليّاً في الموقف السياسي من قوى الأكثرية، التي يبدو أنها كانت تنتظر صمود مقاتليها في الشوارع، وهو ما لم يحصل، وفي المساء كانت الأمور تتجه نحو الانتظار. باتت المعارضة تُحكم قبضتها على مربعاتها، وما لم تتمكن من القيام به من عزل ومحاصرة مناطق الأكثرية ذات الكثافة السكانية السنية والدرزية أرغمت الجيش على تنفيذه عبر انتشار تكتيكي حتم على الجيش إغلاق المداخل والمخارج لمناطق الأكثرية. وصحّ القول إن الأكثرية تحت الحصار.
صباح الخميس في الثامن من أيار كانت المعارضة تنتظر ردوداً واضحة من الموالاة، فليتراجعوا وليعودوا إلى الحوار ينتهِ كل شيء، كما كانت لسان حال المعارضة، حتى إن بري الذي التقى النائب غسان تويني لم يظهر أي حرص على ترؤس جلسات الحوار، وكان ليُسرّ لو أن تويني ترأس الجلسات بصفته رئيس السن، وكان نصر الله يعدّ نفسه للظهور في المؤتمر الصحافي، بينما قوى المعارضة تجهز نفسها للحسم مرة واحدة. كان القرار أن عدم استجابة الأكثرية لكلام حسن نصر الله يمنح المعارضة فرصة أخرى للحسم يجب أن لا تضيعها.
كانت القوة الرئيسية لحزب الله موزّعة كضباط ومقاتلين كل في منطقة للإشراف على حسن سير العمليات، بينما قوات التعبئة للحزب منتشرة مع المقاتلين من حركة أمل والحزب السوري القومي الاجتماعي وبعض القوى الناصرية من بيروت وعدد من علماء الدين السنّة الذين شاركوا في القتال إلى جانب المعارضة، وحين انتهى مؤتمر نصر الله الصحافي، ومع بدء إطلاق النار ابتهاجاً كالمعتاد، بدأت قوات المعارضة مدعومة برأس حربة من القوى النظامية لحزب الله التقدم على أكثر من محور، فأسقط مركز شارع محمد الحوت الذي تقول المعارضة إنه كان يضم مع محيطه نحو 300 مقاتل، بينما تقول مصادر المستقبل إنه كان يضم 50 مقاتلاً، كذلك بدأت عملية التحرك نحو عائشة بكار ودار الإفتاء ونحو قريطم وغيرها، وبدأ الضغط الناري الفعلي على الطريق الجديدة، وكان القرار بالحفاظ على كليمنصو ودار الإفتاء وقريطم والطريق الجديدة ووطى المصيطبة وعدم اختراق هذه المربعات، بينما تمّ الوصول ليلاً إلى منزل النائب عمار حوري، كما أسقط منزل وزير الداخلية حسن السبع وسلّمت زوجته إلى الجيش، وتواصلت العمليات نحو جريدة «اللواء» حيث عاندت بعض القوى إلى أن تراجعت ليلاً، واخترقت تلة الخياط وسقطت ساقية الجنزير.
ومع ساعات الليل الأولى وصف أحد القادة في المعارضة ما حصل في الحمرا بـ«فيلم أميركي» حيث ظهرت آليات تحمل مدافع رشاشة مضادة للطائرات من عيار 23 ملم، خارجة من شاحنات واكتسحت المنطقة، وسارت نحو نهاية الحمرا، كما جرى التقدم من محاور عدة نحو تلفزيون أخبار المستقبل في برج المر، حيث كان يتمركز زهاء 420 مقاتلاً من المستقبل، ومع رفض تسليم المنطقة جرى التعامل بالنيران معها. وفي منطقة عين المريسة، كان هناك تخوّف من حشد مستقبلي، فأرسلت تعزيزات من القوى النظامية لحزب الله وأسقطت المنطقة، وسارت المجموعات العسكرية بالتوازي من مناطق عين المريسة والحمرا وفردان، حيث كانت تخترق الشوارع الداخلية وتسقط المراكز المستقبلية والاشتراكية.
ليلاً كانت مجموعات من شبان المستقبل المراهقين لا تزال ترمي من مواقعها في منطقة عائشة بكار وتواجهها مجموعات المعارضة بنيران البي سبعة، حيث كان القرار النهائي بالتوقف على مسافة 200 متر من دار الإفتاء في كل الاتجاهات.
صباح الجمعة كان يمكن مشاهدة عشرات عناصر القوى النظامية في حزب الله مع مجموعات الدعم من التعبئة ومجموعات حركة أمل في منطقة الحمرا امتداداً إلى البحر، وقد سيطرت على كل المناطق وراحت تنتظر المزيد من الأوامر، بينما كان يمكن سماع صدى صوت أحد قادة المعارضة وهو يقول «إذا لم يتراجعوا فسنتابع».
تعليقات: