البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي
طرح البطريرك بشارة الراعي فكرة الحياد، في وقت تشدّ الأزمة الاقتصادية والمالية الحبل على رقاب اللبنانيين، واعتبرها خشبة خلاص للبنان. ولكن السؤال هل هي ممكنة التحقيق؟ بصرف النظر عن مضمون طرح الحياد، وغاية البطريرك من ورائه، فإنّ الجواب البديهي هو: لا. وذلك لسبب بسيط جداً، وهو انّ لبنان مبتلٍ بمرض مزمن، اسمه: الانقسام على كل شيء؟ وبالتالي فإنّ اي طرح ومهما كانت اهميته، او اي فكرة تُطرح وحتى ولو كانت تحمل فرصة النفاذ الى الانفراج، مآلها السقوط سلفاً، ولن يتكلّف صاحبها سوى العناء والتعب لا أكثر!
بالتأكيد انّ البطريرك يأمل في ان يكون طرحه محل اجماع حوله، لكنه سقط على واقع سياسي معاكس لبعضه البعض، يلف على رقبته حبل طويل من الانقسامات:
اولاً، انقسام حول معنى الوطن.
ثانياً، انقسام حول معنى المواطنة.
ثالثاً، انقسام حول معنى «الوحدة الوطنية» ولعلّها أهم وأرقى عنوان، واوجب ما يجب ان يترجمها اللبنانيون، باعتبارها تشكّل وحدها الحصانة للبنان، لكنها مع الاسف الشديد، مفقودة ولا معنى لها في لبنان.
رابعاً، انقسام حول معنى السيادة.
خامساً، انقسام حول معنى الاستقلال، الذي لا يعرف كثير من اللبنانيين، من هذا الاستقلال سوى يوم العطلة الرسميّة والعرض العسكري في 22 تشرن الثاني!
سادساً، انقسام حول هوية لبنان.
سابعاً، انقسام حول موقع لبنان.
ثامناً، انقسام حول معنى المقاومة، لبنانية كانت او وطنية او اسلامية.
تاسعاً، انقسام حول «حزب الله» والسلاح.
عاشراً، انقسام حول العلاقة مع سوريا.
حادي عشر، انقسام حول العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية والغرب.
ثاني عشر، انقسام حول العلاقة مع السعودية وايران.
ثالث عشر، انقسام حول المحكمة الدولية، والقرارات الدولية.
رابع عشر، انقسام حول معنى النأي بالنفس عن الصراعات الاقليمية والدولية.
خامس عشر، انقسام حول الازمة الاقتصادية والمالية واسبابها وعلاجاتها.
سادس عشر، انقسام حول صندوق النقد الدولي.
سابع عشر، انقسام حول العهد، وحول الحكومة.
ثامن عشر، انقسام طائفي ومذهبي مغطى بقشرة رفيعة جداً من التعايش القسري.
تاسع عشر، انقسام حول الطائف واتفاق فقط على تطبيق انتقائي لبعض مندرجاته.
حبل الانقسامات طويل ولا نهاية له، لأنّ الجامع الوحيد بين اللبنانيين، هي «لعنة الانقسام»، و»صراع الاجندات»؛ كل طرف كامن للطرف للآخر، ويدفع بالآخر للسقوط في الفخ او في الكمين اولاً. واما «التلاقي» فمرادفه الحقيقي هو «الطلاق»، وإن حصل تلاقٍ في ما بينهم يوماً ما، فيحصل بالإكراه، وتبعاً لظروف ضاغطة على هذا الطرف او ذاك، فهو في الاساس «كذبة» لا يستطيع أي من اللبنانيين ان ينفي هذه الحقيقة الموجعة. وربطاً بكل ما تقدّم، أي طرح يمكن ان يخترق هذا الجو الانقسامي المريض، أكان طرح الحياد الذي قدّمه البطريرك الراعي او غيره؟
كيف تفاعل الداخل مع طرح الحياد؟
- قوى الرابع عشر من آذار، تفاعلت مع الطرح وتبنته، ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع حمل لواءه، معلناً «انّ من واجبنا ان نبادر بخطوات عملية لنترجم نداء البطريرك الراعي»، واعداً «بأننا سيكون لنا في الايام المقبلة خطوات سياسية عمليّة في هذا الاطار».
- في بعبدا، جرت الرياح الرئاسية بما لا تشتهي سفن الحياد.
- قوى الحراك المدني، منقسمة حوله. بعضها اليساري يدينه، وبعضها الآخر يتمنى لو اقترن بتنفيذ القرار 1559.
- الوسطيون، معه في القلب، ولكن لا موقف واضحاً منه في العلن، لئلا يُستفزّ هذا الطرف او ذاك.
- قوى الثامن من آذار، وحلفاء «حزب الله» واصدقاؤه، ارتابوا من توقيت الطرح ومضمونه، و»حزب الله» يعتبر «انّه مُوحى به».
- المراجع الاسلامية، بعضها مُحرج، فهو مع الحياد ولا يستطيع ان يجاهر بذلك، واما بعضها الآخر، وتحديداً المراجع الشيعية، تحيطه بالتشكيك، والمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى يقف على النقيض من طرح الحياد. والسؤال الاساس لدى هذه المراجع: أي معنى للحياد طالما انّ اسرائيل تهدّدنا وتحتل الأرض، وإن حيّدنا انفسنا فهل ستحيّدنا اسرائيل؟
- اللبنانيون العاديون، يريدون «الصّرفة»، همّهم الاول والاخير كيف يخرجون من ازمة تخنقهم.
الانقسام واضح حول الطرح، فماذا بعد؟
هذا الانقسام يعزز فرضية انّ البلد سيتحرّك في هذه المرحلة على ايقاعين فرضهما طرح البطريرك الراعي:
- الأول، يتحرّك فيه مؤيّدو طرح البطريرك، على قاعدة انّه «طرح جريء يشكّل مفتاح الحل لأزمة لبنان. ويستجيب لمطالب اكثرية اللبنانيين بإبعاد لبنان عن الصراعات الاقليمية والدولية، وحصر السلاح بيد الشرعيّة الوحيدة المتمثلة بالقوات المسلحة اللبنانية، وقرار الحرب والسلم حصراً بيد الدولة اللبنانية. وعدم استقواء طرف، وتحديداً «حزب الله»، على سائر اللبنانيين، خدمة لأجندات خارجية؛ ايرانية وغير ايرانية، اضافة الى الاستجابة للمطالبات المتتالية من قِبل المجتمع الدولي بإجراءات الاصلاحات وتوفير كلّ ما من شأنه ان يفتح الباب امام تدفق المساعدات الخارجية للبنان لانقاذه من ازمته الخانقة». وفي هذا السياق تندرج مطالبات بعض قيادات «14 آذار» لـ»حزب الله» بأن يُقدم على التضحية وتقديم تنازلات. والتضحية كما يراها هؤلاء «رفع يده عن الحكومة وتركها تعمل بحريّة وعدم التحكّم بها وبقراراتها».
- الايقاع الثاني، هو نقيض للأول، يتحرّك فيه «حزب الله» وحلفاؤه على قاعدة انّ طرح الحياد لا في زمانه ولا في مكانه.
يقولون في «حزب الله»: «انّ الحزب والحالة التي يمثلها، هو المستهدف من كل الطروحات، بهدف ارباكه وإشغاله. فلقد وصل الضغط الى حدوده القصوى، مارسوا التجويع للضغط على الحزب، لكن هذا الامر لم يطل الحزب وحده، بل كل اللبنانيين تأثروا، والحزب لم يتراجع، كانوا يراهنون على ان الموجة التي هجموا فيها ستمكنّهم من قلب الطاولة على الحزب، لكنه لم يتأثر. ولذلك هذا «التسونامي» الذي ارادوا جرف الحزب من خلاله، قد فشل، ولذلك ليس امامهم سوى التراجع والتسليم بالامر الواقع، ولا نعتقد انّهم سيستمرون طويلاً في محاولة خنق لبنان».
ويقولون في الحزب ايضاً: «الاميركيون يعتبرون انّ المشكلة هي بوجود «حزب الله» الذي يمنع وصول المساعدات، فيما هم يريدون تحييده عن الحكومة لانّه يمنع الحكومة من ان تقدّم تنازلات مطلوبة لاسرائيل في موضوع ترسيم الحدود البحرية، وكذلك في ما يتعلق بمهام «اليونيفيل» وتغيير قواعد الاشتباك، وغير ذلك».
اما في ما خصّ مطالبات الحزب بالتضحية وتقديم تنازلات، فجواب «حزب الله» هو انّه، «على من يماشون الاميركيين في طرح إبعاده عن الحكومة، ان يدركوا انّ الحزب ليس جمعية خيرية ليقدّم لهم هدية خروجه من الحكومة. فالحزب جزء اساسي من الاكثرية الحاكمة، وهو يمتثل للعبة الديموقراطية، وبالتالي هو متمثل في الحكومة وباقٍ فيها، وخروجه او اخراجه منها يتمّ في حالة من اثنتين:
- الاولى، ان يتمكن المطالبون بالتغيير وتقديم الحزب للتضحيات والتنازلات، من اسقاط حكومة حسان دياب، وتشكيل حكومتهم والحكم من دون «حزب الله».
- الثانية، ان يتمكن هؤلاء من اسقاط الاكثرية الحالية، لتحلّ محلها اكثرية جديدة، والطريق الطبيعي لذلك هو عبر اجراء انتخابات نيابية، سواء انتخابات مبكرة او في موعدها الطبيعي ربيع العام 2022. وفي مقدور المستعجلين على ازاحة «حزب الله» عن الحكومة ان يضغطوا لإجراء الانتخابات المبكرة، ولكن إن لم يتمكنوا من ذلك، فما عليهم سوى ان ينتظروا حتى الانتخابات النيابية المقبلة، وليربحوا فيها إن استطاعوا وليشكّلوا حكومتهم بلا «حزب الله» وليحكموا وحدهم».
خلاصة الامر، انّه بين منطق مؤيّدي الحياد، ومنطق معارضيه، مضافاً اليهما عبء الازمة الاقتصادية والمالية الضاغطة، يبدو انّ البلد سيكون معلّقاً في القادم من الايام، على سلك ساخن من التوتر العالي سياسياً، والخانق اكثر اقتصادياً ومالياً واجتماعياً.
تعليقات: