ثلاثون عاماً على اتفاق الطائف
بداية وقبل الدخول في موضوع البحث أريد التأكيد أنه يتعذر حصول حرب أهلية في لبنان رغم كل الأجواء المشحونة الحاصلة لأن من بيده القوة الفعلية اليوم في لبنان لا يريد الإستئثار بالوطن ولا يبحث عن إنتصارات داخلية وقد برهن هذه التوجهات وحسن نواياه بوضوح وجلاء في كل المحطات التاريخية السابقة التي مر بها منذ تأسيسه حتى يومنا هذا . وهناك امثلة كثيرة في هذا المجال لا داعي لذكرها الآن . أما بعد
فإن الذي حملني على طرح هذا الموضوع اليوم هو انتشار اراء ومواقف غزيرة على وسائل التواصل الإجتماعي تدعي انه حان وقت إعلان الإنتصار لفئة على أخرى في لبنان وان الوضع لم يعد يطاق وآنه إن الأوان لبق البحصة وحانت ساعة الحقيقة. وأن الآخر أثبت أنه عدو وشرير وشيطان ويتعذر إستمرار الشراكة معه في هذا الوطن. وهذه الأراء والمواقف والأفكار لا تمثل الجو العام ولا تمثل الأغلبية بل هي إما آراء جماعات من المراهقين السياسيين أو المضللين أو المسترزقين على أبواب السفارات وجماعات الغرف السوداء . وهذه الشرائح الإجتماعية موجودة في كل الطوائف والأحزاب والفئات ويمكنك بكل بساطة أن تقدم لي نماذج تؤيد وجهة نظرك بأن في طائفتي وفي فريقي الذي أنتمي اليه أناس من هؤلاء وانا بإمكاني بسهولة أن أقدم لك بسهولة نماذج من فئتك وحزبك وفئتك ترد على نماذجك وامثالك التي تقدمها لي وهذا الأسوب في النقاش عقيم يزيد الطين بلة ولا يقوم معوجا أو يشفي مريضا. والمؤكد أن الحل يكمن باعتماد أسلوب تهميش وتحجيم اصحاب الأفكار المحدودة والضيقة الأفق والسطحية في كل فئات ومكونات الشعب اللبناني والإنطلاق الى الفضاءات الأرحب والأوسع . وأن نسمح للعقلاء الحريصين على بناء وطن قادر على تذويب العقد التاريخية و التخلص من التكلس المذهبي والطائفي ومن التخندق في خنادق الإنتماءات الضيقة والخانقة .
ولا داعي للإستعجال في تحميل المسؤوليات فكلنا مسؤولون وكلنا مذنبون وكلنا خطاؤون ومقصرون . وفي النهاية هذا وطن كلنا ملزمون أن نعيش واقعه وان نقتنع بالشراكة الوطنية والانسانية والأخلاقية فيه معا أي مع كل مكوناته . نحن جميعا نعيش أزمة وجود قادة كبار في لبنان في معظم مكونات وفئات ومكونات الشعب في لبنان ولو توفر مثل هؤلاء الكبار لكانوا قادرين على تغيير مسارات جماعاتهم عندما تكون هذه المسارات لا تخدم التعايش وقبول الآخر وتعاني من إختناقات مقطعية زمنيا.
وإن مشكلة إتفاق الطائف أنه فصل على قياس مشروع خلط بين المال والسياسة واسس لمشروع الفساد والإفساد ومأسستهما في لبنان كما قال الدكتور سليم الحص في أكثر من مناسبة. ولم يعالج إتفاق الطائف الأسباب الحقيقية التي أوصلت لبنان الى الحرب الأهلية اللبنانية وفجائعها وأهوالها. فخرجت كل الطوائف من إتفاق الطائف دون استثناء شاعرة بالغبن وخسارة المكتسبات وهذا الأمر انتج زعماء بالتوارث مهمة كل واحد منهم إقناع جماعته بانه سيعيد لهم المجد الضائع والمهدور ولم يعمل اي فريق على اساس حمل الهم الوطني وتكريس تفعيل دور المؤسسات وحماية حقوق الطبقات الفقيرة والمتوسطة الأمر الذي أنتج تغولا للرأسماليين والمتنفذين من كل الطوائف على إقتصاد البلد وحقوق الناس وانتشر استغلال المواقع والوظائف في الدولة لدى جميع الفئات وكان صمت الجميع وعدم الإستنكار ناتج عن الإستفادة المشتركة من الجبنة الوطنية التي تحولت بمرور الزمن الى رزق سائب يتلاعب به المتنفذون ويتشدقون على المنابر بالوطنية والمناقبية ونظافة الكف.
لذلك إن أي مطالبة بتعديل أو تغيير لإتفاق الطائف لا تعني بالضرورة تكريس غلبة فريق على فريق بل المطلوب إيجاد صيغة أكثر ملاءمة للتعايش وقبول الآخر وضمان حماية حقوق الجميع. إن الإفراط في الحساسية إتجاه نوايا الآخر الشريك يؤذي مشروع الشراكة في الصميم خاصة إذا كان الشريك متفهما وعاقلا ولا يتعاطى في الشأن الوطني بفوقية أو بمنطق الإلغاء.
لقد مرت على لبنان بعد الطائف محطات مضيئة في تجربة التعايش أهمها تحرير الشريط المحتل في الجنوب بطريقة حضارية مشرفة لم يعتد المنتصر فيها أو ينتقم من أي فئة أو طائفة بل اعتمد اسلوب المسامحة وإعطاء الفرصة لمراجعة الحسابات وكان أداء العماد لحود وطنيا وجامعا بامتياز كما كان مدعاة للفخر ولم يسبب أي أذى لمكتسبات أبناء طائفته وكان شخصية جامعة ومقنعة وصاحب كف نظيف وحقق مكتسبات للبنان يستفاد منها كثيرا ويمكن البناء عليها . والحدث الثاني المضيء كان انتصار المقاومة والجيش والشعب في حرب تموز وكان للموقف المسيحي دور كبير وعظيم في دعم المهجرين من الطوائف الأخرى ودعم مشروع الدفاع عن لبنان ووحدة الموقف الوطني ولولا هذا الموقف الداعم لكان الإنتصار متعذرا . والحدث الثالث كان انتخاب البطرك مار بشارة الراعي الذي جال في القرى والمدن في كل محافظات لبنان ودعى الى الشراكة الوطنية والترفع عن الصغائر ومد اليد للشريك في الوطن بثقة وتعاون وأخوة واحتفل به اللبنانيون بكل طوائفهم ومناطقهم بكل بهجة وغبطة ويا ليته استمر بالمحافظة على هذه الروحية التي بثها ونشرها بعد انتخابه بطركا لأنطاكيا وسائر المشرق.
والحدث الرابع المضيء كان التضحيات التي قدمتها المقاومة والجيش اللبناني البطل والشعب اللبناني للدفاع عن لبنان كل لبنان يوم راح إرهابيو داعش والنصرة ومن لف لفهم ينشرون المتفجرات في مناطق مدنية لبنانية في الضاحية وبعلبك والهرمل ومحيطها الذي يضم لبنانيين شرفاء من كل الطوائف ودافعت المقاومة والجيش والشعب وقدموا الشهداء والجرحى والمفقودين حتى تم تحرير جرود عرسال وتفكيك الشبكات الإرهابية حتى عاد الأمن والأمان والإستقرار الى ربوع الوطن .
وكان في كل هذه المراحل يوجد أصوات لزعماء لبنانيين مبخسة بجو الوحدة الوطنية ومثبطة العزم في كل الإنتصارات العظيمة التي تحققت . فأمثال هؤلاء باتوا يشكلون عبأ وعائقا في طريق أي مشروع نهضوي وخلاصي لهذا الوطن المعذب وأمثال هؤلاء صار من الواضح أنهم ليسوا لائقين بموقع المسؤولية الذي وصلوا اليه وتربعوا عليه. وهم يمتلكون من الوقاحة ما يمكنهم أن يستثمروا في مأساة كإنفجار المرفأ المأساوي الذي حصل وحصد مئات الشهداء وآلاف الجرحى وهم بدل يحولوا هذه المناسبة الى مناسبة تجمع وتوحد وتمتن الإنتماء الوطني فإنهم يعملون كوسائل إعلام مأجورة ومنذ اللحظة الأولى للإنفجار الكارثي ولدحصول المأساة الكبرى فهم يركزون على ان الفاعل هو صاحب مشروع حماية حدود وحقوق الوطن ويسعون بكل جهد الى شيطنته واتهامه دون أي دليل علمي أو عقلائي وإستنادهم يكون فقط على الغرائز والأحقاد والرغبات والتمنيات الشيطانية. لذلك فإن النخب اللبنانية من كل الفئات والطوائف والأحزاب إنطلاقا من هذا الواقع المؤلم مدعوة للعب دورها بمسؤولية وأمانة وهي مدعوة لعدم التأثر بالضغوطات الإعلامية المشوشة والحاقدة. لتؤسس الى مشروع تغييري توحيدي يحفظ ما بقي من حلم اقامة وطن إسمه لبنان. والمطلوب إعادة النظر بإتفاق الطائف ومعالجة مكامن إخفاقه وقصوره للتأسيس لنهضة جديدة لبنان بأمس الحاجة اليها.
* المهندس عدنان ابراهيم سمور
باحث عن الحقيقة.
08/08/2020
تعليقات: